الاقتصاد الإسلامي: الاستهلاك

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: الاستهلاك هو مآل الفعالية الاقتصادية، وهو الهدف من النشاط الاقتصادي جملة، ويقصد بالاستهلاك Consumption: عمليات الإشباع المتوالية للحاجات الإنسانية Human Needs بالطيبات.

 

والحاجة في التصور الإسلامي هي الافتقار إلى شيء من مقومات الحياة الأساسية أو التكميلية المعتبرة شرعاً، والاستهلاك بهذا المعنى هو الشرط المادي لاستمرار الوجود الإنساني، وبه قوام الطاقات الجسدية والعقلية والروحية للإنسان ودوامها، لذلك فهو فرض واجب بقدر ما يشبع حاجات الإنسان ويحقق مقاصد حفظ النفس والدين والعقل، وتجري عليه الأحكام الأخرى على مقتضى قصد الشارع منه، ومن هنا نفهم أبرز المبادئ الإسلامية التي تحكم الاستهلاك وهي:

 

1. وظيفية الاستهلاك، وهو المبدأ الذي يؤكد العلاقة الغائية بين الحاجات الإنسانية المعتبرة شرعاً والسلع والخدمات المقبولة شرعاً كوسائل لإشباعها، وهو الذي يفسر استثناء الإسلام بعض الرغبات غير المشروعة وإن توهم الإنسان في إشباعها نفعاً ومتعة لأنها لا تنسجم مع الفطرة الإنسانية، ولا تنسجم مع توجه الإسلام في استكمال طاقاتها.

وهنا يجد تحريم الإسلام بعض الموضوعات حكمته؛ فالميتات والدم والخنزير رجس يسيء إلى طاقات الإنسان الجسدية، وكذا الخمر وعموم المسكرات والمخدرات تسيء إلى طاقاته العقلية، والفسق وما أهل لغير الله به يخلُّ بطاقاته الروحية، لذلك فهي تتناقض مع غاية الاستهلاك ووظيفته قال تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به" (الأنعام: ١٤٥)؛ فالأصل هو حل الطيبات وحرمة الخبائث، وكل ما أضر بالإنسان منع، وإن لم يرد النص به بكتاب أو سنة والله أعلم.

 

2. وسطية الاستهلاك؛ فالإسلام لا يضبط اتجاه الاستهلاك نحو الطيبات فقط، إنما يضبط درجته أيضاً؛ فالإنسان مأمور بالاستهلاك إلى الحد الذي يؤمّن كامل طاقته ومنهي عن الإسراف وتجاوز الحد الذي يستلزمه ذلك، قال تعالى: "وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا" (الأعراف: ٣١)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل والبس واشرب وتصدق في غير سرف ولا مخيلة".

ويأتي توجيه السلوك الإنفاقي متسقاً مع هذا التوجه ومؤكداً وسطية الاستهلاك، قال تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" (الفرقان: ٦٧)، والشواهد في هذا السياق كثيرة. والأحكام الواردة في هذا الصدد تحصّن المجتمع المسلم من أنماط الاستهلاك غير الرشيدة فلا ترف ولا تبذير، وبالمقابل لا بخل ولا تقتير، فكلا الأمرين جنوح لا يتسق مع الفطرة ولا مع الشرع.

 

3. وحدة سلم الاستهلاك الاجتماعي: إذا كانت الترجيحات السابقة تؤكد وظيفية الاستهلاك وتؤكد وسطيته، فثمة اعتبارات وترجيحات شرعية تؤكد مبدأ وحدة سلم الاستهلاك للمجتمع المسلم أو ما يعرف بوحدة دالة الرفاهية الاجتماعية إذ: "لا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي ولا يراعي حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بضروري"، وبذلك يتم تخصيص الموارد بحسب سلم أولويات للحاجات الحقيقية لعموم أفراد المجتمع وليس بحسب أسعار الطلب التي يستطيع دفعها الأغنياء من أبنائه فقط. وتتأكد هذه النظرة موضوعياً من خلال نظام التوزيع الإسلامي الذي يدعم اقتراعاً ديمقراطياً على استخدامات الموارد، ومن خلال قوامة السياسة الشرعية التي تستهدف تحقيق مصلحة الرعية من تخصيصها.

 

4. دخول البعد الإيثاري والجزاء الأخروي في رسم دالة المنفعة الفردية وتأشير اتجاهات سلوك المستهلك المسلم، وهذا البعد يجعل سعي الفرد لتحقيق منفعته الخاصة لا يتم إلا بإشباع حاجات الآخرين، قال تعالى: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو..." (البقرة: ٢١٩)، وقال أيضاً: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" (الحشر: 9)؛ فالصدقة وجه إيجابي للإنفاق يحقق للمنفق تحصيل المنفعة الذاتية ولكن بجزاء أخروي مضاعف: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم" (البقرة:261).

 

وهكذا نجد أن الحاجة في اقتصاد إسلامي تكون مقولة إنتاجية حافزة تدفع الإنسان إلى العمل وتضبط تخصيص الموارد الإنتاجية بحسب الاحتياجات الفعلية. وتكون مقولة توزيعية حين تُعتمد أساساً حقوقياً في التوزيع كما يتضح من أحكام التوزيع في مرحلته الأخيرة. وتكون الحاجة مقولة استهلاكية كذلك حين تؤكد وظيفة الاستهلاك وترشده.

 

هذا في وقت يركز فيه اقتصاد السوق على الحاجة والسعي لإشباعها كميل جامح أو رغبة مجردة عن كل اعتبارات دينية أو أخلاقية أو صحية. وليس من الصعب رصد الجنوح الاستهلاكي في كثير من المجتمعات غير المتدينة التي ربما أصبح الاستهلاك غاية لوجودها؛ ففي ظل مبدأ النفعية Hedonism يكون الإنسان رشيداً بقدر ما يحرز من متع وتكون رفاهته دالة لكمية استهلاكية، وهكذا ينقلب نظام القيم:

فهل يستهلك الإنسان ليعيش؟!.

أم يعيش الإنسان ليستهلك؟!.

لقد اختار الإسلام الخيار الأول بينما اختارت الفلسفة النفعية الخيار الثاني: "أن يؤمن الناس بمبدأ اللذة ويقرروا الاستمتاع"، لكنه اختيار يؤذن، كما يرى (كولن ويلسون) بسقوط الحضارة!!، وهو سلوك بهيمي: "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم" (محمد: 12). إنه سلوك مبني على أصلِ عقدي خاطئ: "وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا..." (المؤمنون: 37)، ومن كانت هذه عقيدته لا شك يرى الرشد كل الرشد في الاستزادة من متاع الدنيا قبل فنائها أو رحيله عنها، ذلك مبلغهم من العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

متصفح الكتب