نظرية المقريزي في التضخم

تعبيرية تعبيرية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، وبعد: في رسالته: "إغاثة الأمة في كشف الغمة"؛ يؤرخ المقريزي للغلاء الذي عاصره وعاشه مدللاً عليه بمقارنة لوائح الأسعار الحادثة للسلع الضرورية بأسعارها القديمة، وقد أنحى باللائمة في هذا الغلاء على سوء الإدارة الاقتصادية؛ فيجزم أن سوء التدبير هو سبب تلك الغمة التي حاقت بالناس وليس الظروف البيئية مثل جفاف النيل أو فيضانه، وليس الأوبئة والآفات وكل ذلك أسباب علَّل بها المقريزي المجاعات وسني الغلاء السابقة عن المشكلة أو الغمة التي كانت محل بحثه.

 

والمشكلة كما يراها تتخلص أسبابها في جانب العرض بنقص الغِلال (المنتجات الزراعية) بسبب تدهور الزراعة؛ فارتفاع الريع النقدي المقتطع من الفلاح وكثرة الضرائب والجبايات التي يلتزم بها أفقرت الفلاحين، كما أنَّ تحكم المتنفذين والخواص في أقوات العامة واحتكار الاتِّجار بها رفع أسعار المنتجات الغذائية ومستلزمات الإنتاج خاصة البذور والأعلاف؛ فعجز الفلاحون عن مواصلة الزراعة وهلكت دوابهم؛ فهجروا الأرض وفرُّوا منها للتخلص من التزاماتهم المالية تجاه المتنفذين الذين كانوا يزايدون في قُبالة الأرض (الريع النقدي في نظام الإقطاع الإداري والعسكري السائد في حينه).

 

أما في الجانب الآخر؛ جانب الطلب فتتمثل أسباب المشكلة كما يراها المقريزي في سوء الإدارة النقدية التي سمحت بزيادة المتداول النقدي بعدما عممت الدولة التعامل بالفلوس، والفلوس بالمعنى الفقهي هي كل النقود المعدنية الاصطلاحية المتخذة من غير الذهب والفضة، ومثل هذه النقود لم يكن بالإمكان الحد من عرضها لأنَّ المعادن التي تسك منها وافرة قياساً بالذهب والفضة، وتجد السلطة النقدية في إصدارها وإتاحتها للجمهور مصدر تمويل رخيص.

 

ونتيجة للنقص في العرض السلعي (نقص الغلال) من جهة، والزيادة في المتداول النقدي (إصدار كميات كبيرة من الفلوس) من الجهة الأخرى نشب الغلاء وعمت المجاعة وأطبقت الغمة. ومما يسجل للمقريزي هنا ليس فقط تجليته لأسباب التضخم (جذب الطلب ودفع الكلفة وتلازمهما)؛ إنما تأكيده أنَّ أثر التضخم ليس واحداً على كل فئات المجتمع إذْ يستفيد منه أهل الدولة وكبار التجار ويتضرر منه عامة الناس!!.

وبهدف معالجة التضخم يدعو المقريزي إلى العودة إلى نظام المعدنين (ذوي العرض المحدود)، ويعتبر الدعوة إلى ذلك دعوة شرعية مناقبية فهو ينكر بإصرار أن يتخذ النقد من غير الذهب والفضة يقول في توكيد ذلك: "... النقود التي تكون أثماناً للمبيعات وقيماً للأعمال، إنما هي الذهب والفضة فقط، لا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما،...".

 

وأحسب أنَّ المقريزي لا يرمي من هذا التأكيد إلى إثبات حقيقة علمية بقدر ما كان متحمساً لمهاجمة التوسع في عرض النقد (باتخاذه من المعادن الوافرة)؛ وإلا فهو ينقل في الكتاب ذاته (إغاثة الأمة) أخباراً عن طوائف من البشر تعاملت بغير الذهب والفضة؛ ففي بغداد "التي أربت عمارتها على عامة الأمصار" تعامل الناس بالخبز سنة بضع واربعمائة، "يقيمونه مقام الدرهم في الإنفاق وينتقدونه نقداً اصطلحوا عليه... يشترون به أكثر المأكولات والمشمومات،..."، وهو ينقل أيضاً عمن رأى لدى تجار بغداد نقوداً صينية ورقية تصرف الورقة منها بخمسة دراهم، وذكر أيضاً أنَّ أهل الصعيد تعاملوا بالوَدَع وأورد أخباراً بهذا المعنى لكنه ساق كل ذلك ليسفه التعامل بالفلوس وليؤصِّل موقفاً حكمياً من التعامل بها لما تسببت به من غلاء!!، وعلى هذا يكون المقريزي من أوائل المنادين بنظرية الكمية تلك النظرية التي تقيم علاقة طردية بين كمية النقد والمستوى العام للأسعار.

 

أما في جانب العرض والاقتصاد الحقيقي فقد دعا المقريزي إلى إصلاح الإدارة وإلغاء نظام القُبالة (الذي يتعهد بموجبه المتنفذون والقادة بدفع مبالغ نقدية كبيرة إلى خزينة الدولة مقابل السماح لهم بجمع الضرائب من الفلاحين، وبدافع من الطمع يغالي هؤلاء المتعهدون بفرض الضرائب ليحققوا مكاسبهم الخاصة من الفرق بين ما يدفعونه للدولة وما يأخذونه من الفلاحين)، ويرى المقريزي أن هذا النظام هو الذي قتل الريف المصري وأهلك الأقليم!!، ويعتقد أنَّ إصلاح نظام الإدارة شرط لإحياء الريف وإنعاش الزراعة، وهذه ناحية متقدمة في تحليل المقريزي إذ يرى أن التركيز على العرض ومرونته تمثل شطر العلاج لمشكلة التضخم.

هذا وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

متصفح المقالات