الثقافات السلبية والبطالة من منظور إسلامي

تعبيرية تعبيرية

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، وبعد: فقد تقدم معنا بحث البطالة كمظهر من مظاهر اللاكفاءة في النظم الاقتصادية وكمظهر من مظاهر الاختلال في سوق العمل. والبطالة التي نعنيها هي البطالة الإجبارية: أسبابها ومعالجاتها في التحليل الاقتصادي الكلي في ضوء قناعات مدارس الفكر الاقتصادي المتعاقبة، كما استشرفت حال اقتصاد إسلامي واحتمالات حدوث البطالة الاجبارية فيه. أما ما نحن بصدده في هذه المداخلة فهي البطالة الاختيارية وتحرير الموقف منها في ضوء معطيات المذهب الاقتصادي في الإسلام، وقد أمكننا أن نرصد لها جملة من الأسباب التي يمكن أن تندرج فيما يعرف بالثقافات السلبية وإليك بسطها:

 

(1)

ثقافة الخمول

ونقصد بها الفهم الذي يستقر في أذهان البعض حول أفضلية الخمول والتنزه عن العمل المعاشي بذرائع دينية أي لأجل التفرغ للعبادة التي جعلها الشارع مقصداً للخلق قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56)، ونسي هؤلاء أن العمل من العبادة وهو شرط لها وهو تكليف بذاته: "... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..." (هود:61)، ونسي هؤلاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا رهبانية في الإسلام، ونسوا سنته القولية والفعلية والتقريرية التي تحث على العمل وترغب فيه؛ وقد تصدى الإمام محمد بن الحسن الشيباني في رسالته: (الكسب) لنقد هذا الجنوح في الفهم والسلوك وبيان مخالفته للمقاصد العامة والأحكام التفصيلية وسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام.

(2)

ثقافة التواكل

يشيع عند فريق من الناس فهم خاطئ لمفهوم الرزق وللموقف من السعي لاكتسابه؛ فطالما أن الله تكفل بالأرزاق: "وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبينٍ" (هود: 6)؛ فلم العمل والنصب، وهذا فهم سوغه البعض لأنفسهم باسشهادات سطحية من كثير من النقول الصحيحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك، 4: 354)، والرد على هذا الفهم في الحديث نفسه فالتوكل شيء والسعي لاكتساب الرزق شيء أخر وكلاهما أمر بهما الإنسان؛ والطير أحسنت التوكل!!، وأخذت أمرها فغدت إلى أرزاقها مبكرة!!.

(3)

ثقافة الكسل

ونقصد بها ذلك الميل السلوكي الذي يستطيب معه البعض متعة الفراغ ويدفع صاحبه إلى التحلل من أعباء العمل ومعاناته. وهو ميل حاربته عقيدة الاستخلاف وحاصرته الأحكام الشرعية ومنظومة القيم الإسلامية. إن هذا الميل سيفضي بالكسول إلى الافتقار وسيضطره إلى المسألة والتسول، وحينما لا يصل إلى مبتغاه من هذا المسلك لأن الناس لا يبذلون أموالهم للقادر الكسول والشرع يمنع ذلك (فالزكاة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي)، فإنه سيجنح إلى الكذب واصطناع العاهة أو إلى الشعوذة واصطناع المهنة التي يظن أنها تتناسب مع كسله ولو كلفته دينه وعقيدته، وقد يجنح به الحال إلى اللصوصية والتشطر. وقد عرض الإمام الغزالي (الإحياء، 3: 228) تحليلاً في غاية العمق والروعة لسايكولوجيا الكسل ومآلاتها، تبدأ من الكسل عن التعلم واكتساب الحرفة وتنتهي بالكسول إلى ما تقدم. ولا شك أن هذه المآلات ترفع من كلفة الأمان الاجتماعي ومحاربة الجريمة.

لقد أوضحت السُّنَّة منهجهاً عملياً في معالجة هذا السلوك، ونددت بالمسألة لغير من يضطر إليها: "من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه" (المستدرك، 1: 565)، بل هو "يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ" (ابن حبان، 2: 304)، والمسألة ذهاب لماء الوجه وهي مفتاح للفقر، وهي كما يراها ابن القيم (مدارج السالكين، 2: 232): ظلم في حق الربوبية لأن السائل يسأل غير الله فيظلم توحيده وإخلاصه، وهي ظلم في حق المسؤول لأنه يعرضه لمشقة البذل (العطاء على كراهة) أو ملامة المنع (يمنعه على استحياء وإغماض)، وهي ظلم لنفسه لأنه يريق ماء وجه ويذل لغير خالقه. ولقد كان الدرس النبوي بسيطاً واضحاً مع السائل الذي جاء يسأل فباع متاعه، وجهزه بفأس وأمره بالاحتطاب ليحرز كفايته بعمله.

(4)

ثقافة الإخلاد إلى الموطن

ونقصد بها أن يقصر جهد الباحث عن العمل على محيطه فإن وجده فبها وإلا أعذر نفسه، وهو ميل لا مسوغ له؛ فالنقلة في طلب الرزق إن تعذرت أسبابه في وطن المكلف أمر مشروع فقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: "ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رحلي ألتمس من فضل الله ثم تلا هذه الآية: "وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله" (الدر المنثور، 8: 328/ روح المعاني، 29: 114)؛ بل لقد قال محمد بن الحسن: "وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدِّم درجة الكسب على درجة الجهاد فيقول لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهداً في سبيل الله لأن الله تعالى قدَّم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله تعالى: وآخرون يضربون في الأرض (الكسب: 33، 46).

وقد أوضح المولى تعالى أن في الهجرة حلاً للمضايقة في العقيدة وحلاً للضيق في العيش: "وَمَن يُهَاجِرْ في سَبيلِ اللَّهِ يَجِدْ في الأ رْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً..." (النساء: 100)؛ قال قتادة في تفسيرها: "متحولاً من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى" (الدر المنثور، 2: 650)، وفي المعنى ذاته روى الطبراني (الأوسط، 8: 174) قوله النبي صلى الله عليه وسلم: "... سافروا تستغنوا". ولعل في هذه التوجيهات ما يستوعب الميول النفسية التي كانت وراء واقع ما يعرف بالعامل المحبط (مدخل إسلامي إلى النظرية الاقتصادية الكلية).

(5)

ثقافة العيب

ونقصد بها ذلك الخطأ في المنظومة القيمية التي يؤمن بها المجتمع والتي تترك توجيهاً سلبياً على سلوك الفرد تجعله يعزف عن العمل المهني ترفعاً أو اتقاءً للنقد الاجتماعي كما كان الحال في مجتمع الجاهلية الأولى. وفي هذا الصدد نجد أن السُّنَّة القولية والفعلية والتقريرية قد حاربت هذه القناعات الخاطئة التي كرستها منظومة القيم الجاهلية ونظرتها الدونية إلى العمل المهني وعملت على معالجة هذا الخلل في التصور والسلوك. ولقد حصَّن الإسلام الأمة من الثقافات السلبية تلك؛ فهو يمجد العمل وينهى عن التعطل، وفي ذلك قال تعالى موجهاً إلى الاكتساب: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" (الملك، 15)، وقال أيضاً: "فإذا قضيت الصلاة فإنتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" (الجمعة، 9).

وقد أكدت السُّنَّة القولية ذات التوجه فعلى سبيل التمثيل نذكر قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أطيب الكسب فأجاب: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور"، وقوله: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام (الذي كان نبياً وملكاً) كان يأكل من عمل يده"، وقوله: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالَّاً من عمل يده أمسى مغفوراً له"، والنبي صلى الله عليه وسلم: يوصي المسلم بالعمل ولو عاجلته الساعة!!؛ فلو قامت الساعة وفي يده فسيل فليزرعها إن استطاع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الكسل، بل كان يعلِّم المسلم المصابرة في الاجتهاد فلا يتثاءب فيضحك منه الشيطان!!.

وجاءت السُّنَّة العملية ترجمة لما تقدم فقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالرعي واشتغل بالتجارة وشارك في بناء المسجد وساهم في حفر الخندق وزرع النخيل بالمدينة وكان يقوم في مهنة أهله، ولم يرض أن يكفيه أحد شأناً من شؤونه كما أكدت ذلك سيرته الشريفة.

ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن لا يعطي الزكاة للقادرين على العمل لأنها "لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب"، وقد أضفى النبي صلى الله عليه وسلم على الكسب صفة تعبدية إذْ أوضح أن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة، وذكر أن عمر سأل أحدهم في المسجد وقد انقطع للعبادة عمن يعيله فأخبره أن له أخاً يأتيه بكفايته فقال له: "أخوك أعبد منك" (المدخل، 4: 299). وجاء في (الإحياء، 2: 62): "قال عمر رضي الله عنه لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة".

ومما تقرر شرعاً أن قدراً من الكسب يؤمِّن كفاية الإنسان هو من الواجبات الشرعية لأن حفظ النفس وكفايتها وكفاية من يكلَّف المسلم بالنفقة عليه، متعلق به وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومما تقرر شرعاً أن أمهات الحرف وأصول الصنائع من فروض الكفاية التي يتعين على الأمة النهوض بها قال الغزالي: "أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك" (الإحياء، 1: 16). وقد تقدم أن السُّنَّة رغبت في الاحتراف وامتدحت الإحسان فيه، ومنطق الإسلام بالجملة يفضل الصنَّاع الكسَّاب على المنقطعين العبَّاد لأن نفع العبادة مقصور على صاحبها أما نفع الكسب والاحتراف فيعم الناس. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

...

متصفح المقالات