الهندسة المالية الإسلامية وصناعة التحوط

تعبيرية تعبيرية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: يقصد بالتحوط اتقاء المخاطر وتخفيف آثارها، وحين يكون الحديث عن الاستثمار؛ فإن المخاطر تتلخص في: فوات ربح متوقع أو تآكل رأس المال. ويقصد بالهندسة المالية الإسلامية ابتكار الحلول المالية وتنميطها في منتجات تحقق الأغراض المالية مع السلامة الشرعية.

 

والملاحظ أن التحوط، وهو هدف من أهداف الهندسة المالية التقليدية المعاصرة، قد طغى على أهدافها الأخرى حتى أصبحت وكأنها معنية فقط بالبحث عن حلول افتراضية للتحوط كان أبرزها المشتقات المالية. ولكي تروج هذه البضاعة كان لا بد من تصنيع الحاجة إليها بالدعاية والإعلان، وبإذكاء الخوف وإذاعته وتفعيل تقلبات الأسواق وهي مخاطر تحت السيطرة تلجئ ولا بد إلى التحوط!!.

 

وهكذا انصرف الاهتمام في العقود الثلاثة الماضية وبجدية عجيبة إلى استحداث سيل من المنتجات التي تحتمل الغرض التحوطي وتسّوق تحت شعاره، لكنها واقعياً متجهة للغرض المضاربي، وذلك عبر تصنيع الغرر والمقامرة والربا في توليفات جديدة وأجيال مستحدثة من منتجات مالية مزعومة لا تعدو أن تكون تشقيقات جديدة لذاك الثالوث القديم: الربا والميسر والغرر بأسماء جديدة: بيوع خيارات وعقود مستقبليات... الخ.

 

وقد انزلقت الهندسة المالية الإسلامية أو كادت إلى منزلق الهندسة المالية التقليدية، وكان المدخل الساذج لهذا التوجه هو التوكيد على موقف الإسلام الصحيح من حفظ المال ووجوب صيانته، لتصل إلى استنتاج سريع وخطير وغريب يتلخص في أن التحوط بالوسائل التقليدية (المشتقات) أمر سائغ بل واجب شرعاً، لأن ما لا يتم الواجب (حفظ المال) إلا به فهو واجب!!.

 

ولأن هذه الوسائل والأدوات أعني المشتقات المالية فيها من المحاذير الشرعية ما فيها، فقد كان لا بد من تأهيلها فقهاً حتى نستطيع أن نبرهن سبق الإسلام وصلاحه لكل زمان ومكان!!.

 

وهكذا، وبقدر بادٍ من التكلف تم تخريج عقود الخيارات على بيع العربون أو على خيار الشرط، كما تم تخريج المستقبليات على عقود السلم وعقود الاستصناع، كل ذلك دون التوقف عند القضية الأساسية؛ أعني ماهية المخاطرة التي يسوغ شرعاً التحوط منها، أو التي يجوز ترحيلها إلى الغير ليخلص لنا الغنم والخراج والربح بعيداً عن ملازماتها، وكأننا لم نسمع شيئا عن: قاعدة الغنم بالغرم، والخراج بالضمان والنهي عن ربح ما لم يضمن!!.

 

نعم لقد أسدل الستار على هذه الأسس الحاكمة للتمويل الإسلامي لصالح القول بحفظ المال وتنميته بما تتيحه الأسواق المالية من أدوات، وانساق كثير من المسلمين وراء مشورة أئمة التحوط؛ فركبوا قطار الهندسة المالية التقليدية أفراداً وربما حكومات، متحوطين ومضاربين!!، واستدرج السمان منهم إلى مصائد المغفلين أو ما كان يسّوق على أنه صناديق تحوط، وهي أوعية مالية انتقائية عملاقة تنشط في حيز من الفراغ القانوني ولا تخضع لأي تشريعات وطنية أو دولية، ومسّوغ مشروعيتها المتفلتة على هذا النحو: أنها تخدم الاقتصاد الأمريكي!!.

 

وما إن بدأت الأزمة تعصف بالأسواق المالية وباقتصادات العالم حتى اكتشف المتحوطون المسلمون الحقيقة المرة، وربما كانوا آخر من اكتشفها، وأدرك من بقي له شيء من لُب منهم أنهم كانوا في مسعاهم كانوا كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!!.

 

لقد بني النظام المالي المعاصر على عقيدة فاسدة مالياً قبل أن تكون فاسدة شرعياً، ومن وجوه فساد هذه العقيدة المالية السعي إلى فك الارتباط بين مغانم الاستثمار ومغارمه (مخاطرته)، ومن وجوه فسادها سماحها بنقل هذه المخاطرة إلى الغير عبر صنوف المشتقات، ونسوا أن المخاطر محكومة بقانون ربما له دقة قوانين الفيزياء، فهي تلد مع الاستثمار ولا تفنى إلا بفنائه، وكان على النظام الذي شرعن تلك الأنانية وذلك الدجل المالي أن يتحمل غُصة تلك الأصول السامة التي تتشردق بها البنوك وشركات التأمين والمؤسسات المالية والتي تتكلف الحكومات ومن ورائها دافعو الضرائب أعباءها الهائلة بينما انسحب اللصوص والنصابون إلى مغاراتهم يستمرئون التنعم بوافر جنيهم تاركين العالم يتقلب في بلائه!!.

 

والمطلوب من الهندسة المالية الإسلامية وقفة نقدية تقديرية تخرجها من مدار الهندسة المالية التقليدية خاصة وأن القوم صاروا يتلفتون إلى الإسلام ونظامه المالي والاقتصادي،،، الحديد ساخن وينبغي أن نبادر فنحسن الطرق، ولا أحسب إن من الحكمة في شيء أن نؤجل الدعوة إلى النظام المالي والمصرفي والاقتصادي الإسلامي أو أن نؤخر عرضه على الناس بحجة عدم نضجه، وأحسب أن من أول ما ينبغي فعله هو تنزيه هذا الفكر من تلك التخريجات التي قربته من نظيره التقليدي حتى لا يُفجع المتطلعون إلى الإسلام ونظامه المالي، بالمسخ الذي فعلته الهندسة المالية الإسلامية مسايرة للأسواق المالية والمصرفية التقليدية أو تأثراً بها.

 

إن مزية النظام الإسلامي تكمن في تقديري في أمرين: الأول هو توسيع قاعدة المخاطرة بإشتراك الممول مع المستثمر في المغانم والمغارم. أما الثاني فهو إرساء المخاطرة وعدم ترحيلها إلى الغير، وهو ما يستفاد من استقراء أحكام المعاملات. ولا يفهم من كلامنا أننا نستهدف المخاطر أو الخسائر، ولا يفهم من كلامنا تسفيه الشعور الفطري للتحوط فهذا ما لا يقول به عاقل؛ إنما نريد تحوطاً مشروعاً، وإذا كانت نظرية العقد تسّوغ للأغيار كل ما يتراضون عليه، فإن نظرية العقد الإسلامية تشترط أن يكون ما يتراضى عليه العاقدون في دائرة الإباحة التي حددتها الأحكام الثابتة.

 

لقد استطاعت الهندسة المالية الإسلامية الصحيحة، التي سبق وجودها وجود هذا المصطلح، أن تنتج سيلاً من الأدوات والحلول الفعّالة والمشروعة في عوالم التمويل والتجارة الحقيقية ومن ذلك:

  • الكتابة والإشهاد والرهن لحل مشكلات التوثيق الذي يستلزمه الائتمان.
  • شركات الأموال (عنان ومفاوضة) لتحل مشكلة الحاجة إلى حجوم التمويل الكبيرة.
  • شركة المضاربة لتحل مشكلة الحاجة المتبادلة بين العمل والمال.
  • عقد البيع الذي ارتضاه المولى تعالى حلاً لانتقال الأعواض استجابة لحاجة المتبادلين إلى الأعيان والأثمان، ويسّجل للإسلام اهتمامه بعقد البيع وضبطه له على نحو معجز تتصاغر عنده كل معطيات الفكر الوضعي.
  • البيع الآجل والبيع منّجم الثمن لحل مشكلة نقص السيولة آنياً.
  • بيع السَّلم ليحل مشكلة تمويلية وتسويقية بتعجيل الثمن وتأجيل المثمن. وتالياً جاء السلم الموازي ليؤمن كفاءة ذلك عند وجود الطرف الثالث.
  • قبولها لمبدأ تسهيم رأس المال (تجزئته) لحل مشكلات حجوم التمويل الكبيرة، وحل مشكلة السيولة بتأمين التداول في الأسواق المالية.
  • تحويل جهة الالتزام ومكان إبرائه بواسطة الحوالات أو السفاتج والكمبيالات، فالدين في الإسلام علاقة مالية لا شخصية، ومن أحيل على مليء فليتبع.
  • الوكالة التي تقيم الوكيل الملتزم محل الأصيل الذي يوكله في الحدود التي يرتضيانها مما أقره الشارع.
  • الكفالة التي تضم ذمة الغير الخالية من الالتزام إلى ذمة الملتزم تعضيداً لها وتدعيماً للمعاملات المالية.
  • رقاع الصيارفة أو السندات الإذنية، التي توثق إقراراً بمديونية محددة وتعهداً بسدادها لحامل الرقعة أو السند، في تنميط لعلاقة ثنائية بين الدائن (حامل الرقعة) والمدين (محررها).
  • الصك أو ما صار يعرف اليوم بالشيك، وهو أمر من المالك إلى المستودع بدفع مبلغ للمستفيد، في تنميط لعلاقة ثلاثية أطرافها المحرر (المحيل) والمستفيد (المحال) والمكلف (المحال عليه) أو المسحوب عليه. ومثال ما تقدم ما تعامل به عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب رضي الله عنهما من رقاع وصكوك. هذا ويلاحظ أن هذه الأدوات هي بمثابة البكرات في عالم الفيزياء الحركية وظيفتها توفير المرونة الكافية للتعامل مع الالتزامات ضمن القواعد العامة للمعاملات الإسلامية لجهة ضبط ذمة الالتزام أو تاريخه أو مكان إبرائه.
  • تنقيد المبادلات لإخراج المتعاملين من دائرة ربا الفضل كما في حديث التمر الجمع والجنيب (أنظر تفصيل الخلاف في الاستدلال بهذا الحديث لمشروعية التورق في بحث التورق المصرفي المعاصر: دراسة تقديرية).
  • الترخيص بالعرايا في خمسة أوسق أو ما دونها، كما ثبت في الصحيح عند النهي عند المزابنة ترفقاً للحاجة مع تعذر العلم بالمماثلة.
  • الكوبونات الأجرية أو صكوك الطعام التي عرفتها الدولة الإسلامية إذ كانت تخصص لموظفيها العموميين: أجورهم معرّفة بكميات معلومة من صنوف معلومة من الطعام تغلباً على مشكلة نقص السيولة.
  • ومن الحلول المالية التي عرفها الفقه الإسلامي مما يندرج في باب الحيل المشروعة، حل محمد بن الحسن الذي تلقاه ابن القيم بالقبول، لمشكلة نكول المواصف في بيع المواصفة بأن يشترط الموعود عند شرائه المبيع خياراً يمكنه من رد المبيع إن نكل الواعد. أما الحل المعاصر لذات المشكلة والذي عليه العمل في جل المصارف الإسلامية فهو القول بالزامية الوعد وهو حل يحيل الوعد إلى عقد بات لا خيار فيه (أنظر في ذلك: ملاحظات في فقه الصيرفة الإسلامية).
  • ومن الحلول المالية العملية والتي تبنتها كل المصارف التقليدية والإسلامية، ما كان يفعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إذ كان يقبل المال من الناس على أنه قرض لا وديعة تحقيقا لمشروعية الضمان ولمشروعية الربح الذي يتولد عن التصرف به.
  • واستحدث الحنفية عقد الاستصناع وأفردوه عن السلم وخصوه بشروط وقيود تحقيقا لمقاصد إنتاجية وتمويلية.
  • كما عرفت الهندسة المالية المعاصرة صناديق الاستثمار والصكوك الاستثمارية، ومشروعيتها تقيّد بالأبعاد العقدية التي تحكم أطرافها أولاً، وبطبيعة نشاطها ثانياً وبمئالات التعامل بها ثالثاً، ولا شك أن وجودها يمّكن المستثمر من خفض المخاطر بتنويع مروحة أصوله.
  • ومن الأدوات المستحدثة التي تبنتها الهندسة المالية الإسلامية المعاصرة، عقود الإجارة التمويلية والإجارة المنتهية بالتمليك وصكوك الإجارة الموصوفة في الذمة، وهي أدوات ينبغي أن تمّحص مبانيها العقدية أولاً ثم ينظر في مئالات تطبيقها ثانياً.

ولعل في البحث المنهجي المتثبت في أبواب الحيل ما يكشف الكثير من الأفكار التي يمكن أن تستفيد منها الهندسة المالية الإسلامية، ونشير ابتداء أن الحيل على ضربين: منها حيل سعت لدفع الحكم دون دفع العلة التي كانت سبباً له، ومثل هذه الحيل لا شك باطلة وقد ندد القرءان بمن يأتي بها كما هو حال القرية التي كانت حاضرة البحر، وحيل سعت إلى دفع العلة أو تجنبها، وبذا يندفع الحكم تبعاً، وهذه هي الحيل المنتجة للحلول العملية التي لا تخالف مقاصد الشارع ولا تسئ الأدب معه، ولعل مثالها الواضح حديث الجمع والجنيب، والله أعلم.

 

وخلاصة القول إن عقود التحوط عبر المشتقات المالية عقود طارئة لا علاقة لها بالمبنى العقدي للتمويل، وهي عقود فاسدة بذاتها لما يكتنفها من غرر وربا وميسر، وهي فاسدة في استخداماتها إذ أراد البعض التحوط بها لما لا يجوز التحوط منه أي المخاطرة التي يطيب معها الربح، بينما أرادها الأكثرون أدوات للمضاربة والمقامرة ليس غير.

 

إن المستثمر له أن يتحوط بتنويع أصوله والموائمة بين تدفقات حقوقه المالية والتزاماته، وهذا من الحكمة التي يتعين أن يلتمسها، أما أن يلجأ إلى بيع المخاطر وترحيلها إلى الغير عبر المشتقات المالية والتأمين التجاري فهو أمر لا يمكن قبوله إلا بتعسف الاستدلال.

 

ومرة أخرى نذكِّر أن مزية الاستثمار الإسلامي في خروجه عن المداينات إلى المشاركة التي توسع قاعدة المخاطرة مما يهّون تحملها على خلاف الاستثمار التقليدي الذي تتركز فيه المخاطر وتعظم وطأتها على فئة المنظمين في القطاع الحقيقي وعلى شركات التأمين في القطاع المالي مما يجعل النشاط الاقتصادي رهين بمزاج تلك الثلة وتقديرها لمستثبل الاستثمار.

 

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

متصفح المقالات