الإجارات التمويلية المنتهية بالتمليك

تعبيرية تعبيرية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، وبعد: الإجارة: "عقد على المنافع بعوض" (الهداية، 3: 231)، أو هي: "عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة أو عمل معلوم بعوض معلوم" (الروض المربع، 2: 294)؛ فالإجارة إذاً ترد على الأبدان ويكون محلها خدمة يتعهد الإنسان الأجير ببذلها، وترد على الأعيان التي يمكن أن تستأدى منها المنافع مع دوام أصلها مثل المباني والآلات، وواضح أن إجارة الأصول والأعيان هي محل البحث وليس إجارة الأبدان.

والمقصود بمطلق الإجارة هو الإجارة التشغيلية التي تتحقق فيها مباني عقد إجارة الأعيان وتتحقق فيها مقاصده، إذ يتراضى العاقدان على أن يمكِّن الممولُ (المؤجر/ مالك العين أو الأصل) المتمولَ/ المستأجر من منفعة العين مدة الإجارة لقاء عوض معلوم ابتداءً ومضمون هو الأجر المسمى في عقد الإجارة، ومدة الإجارة التشغيلية في العادة مدة قصيرة مقارنة بالعمر الإنتاجي للأصل.

وفي هذا العقد يلتزم الممول مالك الأصل، يلتزم بإبقاء الأصل على حال صالح للاستغلال واستئداء المنفعة منه لصالح المستأجر، ويتحمل المالك مخاطرة الملك كاملة: مخاطر هلاك الأصل وصيانته وتغير قيمته، وكلفة التأمين عليه ورسوم ترخيصه وإجازة استخدامه.

ويلجأ المتمول إلى الإجارة التشغيلية ليستغني بها عن التكاليف المرتفعة لشراء الأصول وصيانتها مثل المباني والمعدات الهندسية والإنشائية وسيارات النقل وتوفير هذه التكاليف لتوجيهها لتسيير نشاطه وتمويل رأس المال العامل في مشروعه، كما تتيح الإجارة التشغيلية للمتمول ومستخدميه فرصة التعرف على المعدات والأصول التي يحتاجها المشروع وتجريبها قبل التفكير بشرائها، وقد يستغني المتمول بالإجارة التشغيلية عن تملك الأصول التي تتعرض لتغيرات فنية سريعة إذ يتاح له استخدام أجيال محدثة منها بتكاليف معقولة.

الإجارة التمويلية أو الإجارة المنتهية بالتمليك

يطلق على هذا العقد أسماء متعددة منها الإجارة التمويلية والبيع الإيجاري والإيجار الساتر للبيع والإيجار المقترن بوعد بالبيع، وقد انتقل هذا العقد إلى العالم الإسلامي من الغرب مثلما انتقلت منتجات مالية كثيرة، وتبنته مصارف ومؤسسات مالية إسلامية متعددة ودعا إلى تفعيله باحثون بعد إدخال ما اعتقدوه تطويرات ضرورية لسلامة تطبيقاته (الشويات: 5).

والإجارة التمويلية نظام تمويلي مشوب من عقدين أولهما ظاهر ونافذ بحكم العقد هو الإجارة، وثانيهما بيع مرابحة مستتر معلّق الآثار على إتمام المتمول الوفاء بالتزاماته وتسديده لثمن الأصل كاملاً (الأصل التي يستأجره ظاهراً ويشتريه حقيقة)؛ فبموجب هذا النظام يقوم الممول (المصرف أو المؤسسة المالية) بناء على طلب العميل المتمول بشراء آلات أو معدات أو أية أصول عينية يتملكها الممول أولاً؛ ثم يدفعها إلى المتمول على سبيل الإيجار مع التعهد بالتنازل عن ملكيتها له في نهاية المدة المتعاقد عليها، مقابل ما يوّصفه العقد ببدلات إيجار دورية تمثل بمجموعها ثمن المرابحة المنجّم.

الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك المقترنة بالبيع

وقد يعاد ترتيب المبنى المتقدم على النحو الآتي: يقوم المتمول الذي يكون بحاجة إلى السيولة ببيع أصل إنتاجي يملكه إلى الممول (المصرف/ المؤسسة المالية)؛ بيعاً مشروطاً بأن يوقعا عقد إجارة تمويلية تنتهي بإعادة تمليك الأصل للمتمول من جديد بعد دفع "بدلات الإيجار" بحسب الجدول الزمني الذي يتم الاتفاق عليه.

وهنا نلحظ أننا بصدد معاملة لها شبه ببيع العينة لجهة أن المتمول يبيع الأصل بثمن حال ليعود فيشتريه بثمن آجل أعلى من ثمن البيع، وللمعاملة شبه ببيع الوفاء لجهة أن المتمول الذي باع العين للممول له أن يستردها متى رد إليه الثمن ممثلاً ببدلات الإيجار، والمعاملة لها وجه شبه بالرهن أيضاً حيث يكون الأصل رهناً يقابل القرض الذي حصل عليه المتمول؛ فإذا سدد (المدين/ المتمول) التزامه استرد الأصل المرهون.

الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك المقترنة بالقرض

وصورتها أن يقوم الممول: المؤجر المحتمل للأصل الإنتاجي، بشراء ذلك الأصل بأموال يملكها بنسبة معينة والباقي يتم تمويله بأموال يقترضها بضمانة الأصل عينه (يعتبر الأصل رهناً لقيمة القرض). ومع أن المنطق يقضي بأن عقد الاقتراض يوقعه الممول الذي اشترى الأصل وتملكه ولا علاقة للمتمول به، إلا إن المتمول (المستأجر بمنطوق العقد المشتري بمقصوده) يُدعى هو الآخر للتوقيع على القرض بصفته ضامناً للسداد!!.

 

بواعث الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك

كمنت خلف الإجارة التمويلية بواعث جدية دفعت إلى إيجاد هذا العقد وتطويره في المجتمعات المختلفة، ويمكن تصنيف هذه البواعث في حزمتين؛ واحدة لجهة الممول وهي الأقوى أثراً، والأخرى لجهة المتمول وكما يظهر فيما يأتي تباعاً:

  • يتيح عقد الإجارة التمويلية للبائع الاحتفاظ بالمبيع؛ في حين لا تتيح أحكام البيع ذلك؛ وتوجب انتقال العين إلى المشتري ودخولها في ملكه، وما يريده الممولون هو التستر بعقد الإيجار للاحتفاظ بملكية العين حتى (لحين) يتم لهم استيفاء ثمنها الذي سمي تدليساً بدل إيجار، وبعد ذلك تنقل ملكية العين إلى (المتمول/ المستأجر/ المشتري) هبةً أو بثمن رمزي.
  • يتيح عقد الإجارة التمويلية للممول إمكانية تعديل قيمة التزامات المتمول (أقساط الثمن المؤجل) باعتبارها بدلات إيجار، في حين لا تتيح أحكام عقد البيع تغيير قيمة أقساط الدين الثابت في الذمة.
  • يتيح هذا العقد للممول مركزاً يمكنه من استغلال المتمول فإذا فسخ العقد لأي سبب كان، يسترد الممول الأصل وليس للمستأجر أن يطالب بالفرق بين بدلات الإيجار التي دفعها فعلاً، والتي هي في حقيقتها أقساط الثمن المؤجل للأصل المبيع، وأجرة المثل التي تستحق على منفعته فهو في حكم العقد محض مستأجر.
  • تغطي أحكام هذا العقد تنصل الممول المالك للأصل المؤجر من أعباء مالية تقترن بحقيقة الملك مثل نفقات التأمين على الأصل المؤجر ونفقات صيانته بل وحتى ضمانه تجاه المجهز كما تقدم في الإجارة الرفعية، وترحيل كل ذلك إلى المستأجر الذي لم يملك العين بعد.
  • وبالجملة يتيح عقد الإجارة التمويلية للممولين التخفف من بعض أعباء الملك (مثل رسوم الترخيص والتأمين وتكاليف الصيانة)، ويتيح لهم دفع مخاطر المداينات الناجمة عن بيوع المرابحة للآمر بالشراء، وذلك بتمرير التمويل عبر مباني عقد الإجارة ليتوصل به إلى ما لا يتوصل إليه بعقد البيع؛ فيشترط البائع بقاء العين في ملكه لحين وفاء المشتري بالتزاماته، فيبدو المتمول (المشتري/ المستأجر) منكشفاً عقداً وقانوناً في حال فسخ العقد.

ومع ما تقدم لاحظ البعض:

  • أن الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك تسّهل على المستأجر الحصول على الأصول التي يحتاجها بأقساط تفضي إلى تملكه إياه دون الحاجة إلى الضمانات التي تشترط في بيوع التقسيط مثل الرهن والكفالة.
  • أن الإجارة التمويلية تعفي المستأجر من الضرائب التي تفرض على تملك المعدات.
  • أن قيمة الأصول المستأجرة لا تظهر في الميزانية لأنها لا تثبت كديون، وهذا يساعد على تحسين المركز الائتماني للمتمول، على الرغم من أن اعتبارات محاسبية تطالب برسملة القيمة الإيجارية وتسجيلها ضمن عناصر الميزانية، وهو ما أكدته المعايير المحاسبية الصادرة عن المجلس الدولي لمعايير المحاسبة المالية.

مشروعية الإجارة التمويلية

إن عقد الإجارة برسمه الفقهي المعروف من العقود المسماة ثبتت مشروعيته بالكتاب والسُّنة والإجماع، وما يعنينا هنا هو التحقيق في مشروعية التطبيقات التمويلية التي تتذرع بعقد الإجارة ممثلة بصور الإجارة التمويلية، وفي هذا السياق صدر قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (198) في 1420هـ، بعدم جواز الإجارة المنتهية بالتمليك لأنه جمع بين عقدين على عين واحدة. وبرغم ذلك فقد أعتبر هذا القرار مجملاً لم يراع تفصيل صور الإجارة التمويلية المختلفة وأبرزها:

  •  الإجارة المنتهية بالتمليك بتمام السداد تلقائياً.
  • الإجارة المنتهية بالتمليك بالبيع في نهاية المدة بثمن رمزي.
  • الإجارة المنتهية بالتمليك في نهاية المدة بوعد ملزم بالهبة.
  • الإجارة المقرونة بوعد ملزم بالبيع.

ومن استعراض هذه الصور نلحظ أن صورة العقد الأولى هي الصورة التي تعتمد في المؤسسات التمويلية التقليدية، وفيها تنتقل ملكية العين إلى المستأجر بمجرد سداد بدل الإيجار الأخير تلقائياً، دون الحاجة إلى إبرام عقد جديد ودون أي ثمن سوى ما دفعه من بدلات إيجار والتي هي في الحقيقة ثمن الأصل، وهنا يسجّل الآتي:

أولاً: إن الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك تشترط عقد البيع في عقد الإجارة، واشتراط عقد في عقد مسألة منعها جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى تقييد ذلك بما إذا كان أحدهما عقد معاوضة والآخر عقد تبرع كبيع وسلف وإجارة وسلف.

ثانياً: إن عقود الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك في الواقع تشتمل شرطاً أو شروطاً منافية لأحكام المعاملات الإسلامية ومن ذلك أن يتحمل المستأجر تكاليف التأمين على الأصل ورسوم ترخيص استخدامه ونفقات صيانته، وكل ذلك يرتبط بحق الملك وطالما كانت ملكية الأصل للممول المؤجر فلا يسوغ تحميل هذه الأعباء على المستأجر.

لقد اتجه النظر القانوني بالجملة إلى تكييف عقد الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك على إنه عقد بيع لا إجارة، لأن نيات المتعاقدين والقرائن المصاحبة تدل على ذلك، ولم يعتد بتسميته التي يصطلح عليها العاقدان، بينما اتجه النظر الفقهي المعاصر بالجملة إلى تبني اسم العقد ومبناه وتنكر لمضمونه كونه بيعاً، ولذلك تشبث بإقرار تكييفه إجارة والمكابرة في تأكيد مقتضياتها، لكن هذا القول يعني أننا بحاجة إلى عقد جديد أخر ينقل الأصل إلى المتمول (المستأجر/ المشتري)، فكان:

  • لابد من وجود عقد هبة أو عقد بيع مع عقد الإجارة.
  • ولأن الأحكام الفقهية لا تجيز ورود عقدين على المحل ذاته في وقت واحد، وجب أن نؤجل العقد الناقل للملكية إلى نهاية المدة أو نعلّقه على استيفاء كامل الأجرة.
  • ولأن أيلولة الأصل إلى المتمول في نهاية المدة أمر معتبر في إبرام العقد الأول (الإجارة) ومعتبر في مقدار بدلات الإيجار التي هي في حقيقتها أقساط الثمن، كان لابد من وجود وعد ملزم بالهبة أو البيع يقترن بعقد الإجارة لئلا يتبخر حق المتمول.
  • ولأن الممول في نهاية المدة يكون قد استوفى كامل الثمن أثار السعر الذي يباع به الأصل آنئذ إشكالاً؛ فإن قلنا هو ثمن رمزي أجزأ هذا الاشتراط شكلاً في حال أتما العقد.
  • لكن ماذا لو فسخ العقد قبل تمامه؟!، أيصح أن يأخذ المتمول ما استلمه من ثمن المبيع بحجة أن ذلك بدلات إيجار والكل يعرف أنها أقساط ثمن وأنها تتجاوز أجر المثل؟!.
  • وإن كان البيع بثمن السوق فالرزية على المتمول أعظم لأنه والحال كذلك، سيدفع ثمن الأصل ذاته مرتين!!.
  • وإن قلت ينبغي أن يكون بدل الإيجار مساوياً لأجر المثل حتى يكون البيع بسعر السوق تالياً أمراً عادلاً ومقبولاً، انتقض قصدهما وانتفت الحاجة للإجارة التمويلية وعدنا إلى الإجارة التشغيلية بأحكامها المعروفة والموثوقة.

لكل ما تقدم أعتقد جازماً أن التخريج القانوني الذي أعتبر الإجارة التمويلية بيعاً كان أصرح وأصوب من التخريج الفقهي الذي أتعب نفسه في رياضة عريضة لم يخرج منها إلا بمبان مسكونة بالحيل تخالف واقع الحال وتخالف مقاصد العاقدين، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "القصد روح العقد ومصححه ومبطله؛ فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاءً لما يجب اعتباره واعتباراً لما يسوغ إلغاؤه (إعلام الموقعين، 3: 94)، ونذكر مرة أخرى أن القاعدة القاضية بأن: "العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني"، ينبغي أن تنزَّل على مقاصد العاقدين لا على مقاصد الباحثين ولو حسنت، ولعل في عرض جوانب من قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن الإجارة المنتهية بالتمليك ما يبرهن صحة هذه الطريحة.

 

قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي

بشأن الإجارة المنتهية بالتمليك

عرض قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض، 1421هـ، بشأن الإجارة المنتهية بالتمليك لجملة من المسائل نذكر منه ما يأتي:

ضابط المنع: أن يرد عقدان مختلفان، في وقت واحد على عين واحدة في زمن واحد.

ومن صور العقد الممنوعة:

  • إجارة تنتهي بتمليك العين المؤجَرة في نهاية المدة تلقائياً.
  •  إجارة مع عقد بيع معلق على سداد جميع الأجرة أو مضاف إلى وقت في المستقبل.
  • إجارة مع بيع بخيار الشرط للمستأجر.

ومن صور العقد الجائزة:

  • عقد إجارة يقرن بعقد هبة مستقل ومعلّق على سداد كامل الأجرة.
  • عقد إجارة يقرن بوعدٍ بالهبة بعد سداد كامل الأجرة.
  • عقد إجارة يقرن بوعدٍ ببيع العين المؤجَرة للمستأجر بعد سداد كامل الأجرة بثمن يتفقان عليه.
  • عقد إجارة مع الخيار للمستأجر في شراء العين المأجورة بسعر السوق بعد الانتهاء من سداد كامل الأجرة وذلك وفق قرار المجمع في دورته الخامسة.
  • عقد إجارة مع الخيار للمستأجر في شراء العين المأجورة في أي وقت يشاء بسعر السوق وفق قرار المجمع في دورته الخامسة، أو حسب الاتفاق في وقته.

ولعل المرور بهذه الصور المثقلة بالاشتراطات يكشف بعد الشقة بين التكييف الفقهي للإجارة التمويلية وحقيقتها الماثلة في الواقع!!.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

متصفح المقالات