تمويل الضمان الاجتماعي في الإسلام

تعبيرية تعبيرية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: أكد الإسلام موقفاً مبدئياً في غاية الوضوح وترتيبات مؤسسية في غاية الاستيعاب لقضية الأمان والضمان الاجتماعي، ونحن الآن مدعون في هذه السطور لنتعرف على هذه القضية في بعدها التمويلي، وهنا نجد أن فلسفة التمويل الإسلامي للضمان الاجتماعي تستند على الركائز التالية:

أ- تفعيل المصادر الذاتية والتكافلية من خلال:

1. حفز طاقات الإنسان وحشد موارده لتمويل إشباع حاجاته ومن يعول، والارتقاء بهذه المسؤولية لتكون بالقدر الذي يؤمِّن الكفاية تكليفاً شرعياً، وليس مجرد ميل ذاتي للاكتساب، قد يفتر أمام دواعي الكسل والخمول؛ فالإسلام حبب في العمل التكسبي وندب إليه، وجعل صنوفه من فروض الكفاية، وجعل الحد اللازم لإعالة الفرد ومن يكلف هذا الفرد بإعالته شرعا، واجباً شرعياً ومدنيا، يقول الإمام السرخسي: "الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه ...، يفترض على كل أحد اكتسابه غنياً أو فقيراً لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به، وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضاً ... فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضى به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين مستحق عليه ... قال عليه السلام الدين مقضي، وبالاكتساب يتوصل إليه. وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد صغار فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم".

2. تفعيل صيغ التأمين العقدية المشروعة التي يمكن أن تسهم في تأمين كفاية الأفراد بإمكاناتهم الذاتية، مثل الضمان المقدم من قبل الحكومات لمستخدميها الذين تحققت فيهم شروط معينة قررتها لوائح وقوانين الضمان الاجتماعي، أو من خلال التأمين التعاوني التبادلي أو من خلال شركات التأمين الإسلامية المعاصرة التي صحت مبانيها وأنشطتها.

3. تفعيل صيغ التكفيل الإلزامية مثل الزوجية والقرابة المورِّثة فهي من الأسباب الموجبة لاستحقاق النفقة؛ فقد أجمع العلماء على وجوب الإنفاق شرعاً على الزوجة والولد، وعلى القريب المعسر، ولم يزل الإسلام عبر تشريعاته المبدئية، ومؤسساته التربوية والقضائية ينفذ هذا التوجه بأمانة، يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت".

4. تفعيل صيغ العمل الخيري والتطوعي سيما مؤسسات الوقف الخيري الذي كان له على امتداد التاريخ الإسلامي دور كبير في تمويل الكثير من المفردات التي تسهم في كفاية المحتاجين بما تقدمه من خدمات ترفع عن كاهل المحتاجين بنوداً انفاقية كانوا سيضطرون إليها لو لم تكفهم مؤسسات العمل التطوعي مئونتها، ومن ذلك: المدارس والكتاتيب والمكتبات، المشافي والمصحّات، المياتم ودور العجزة، دور الأرامل والمطلقات، نزل الغرباء ودور الضيافة، المبّرات والموائد الرمضانية، استراحات المسافرين، العيون والآبار وتمديدات المياه، القناطر والمعابر والجسور، الربط والخيول والسلاح، المنتزهات الترفيهية، أوقاف الحلي لتسبيل الانتفاع بالزينة المشروعة، بل لقد تجاوز اهتمام الوقف إلى المجالات التمويلية والإنتاجية فكانت بنوك البذور الوقفية تنهض بمهمة تجهيز الفلاحين المحتاجين بالبذور، أما أوقاف النقود (بنوك التمويل الوقفية) فقد مثّلت بعداً فقهياً وتاريخياً مميزاً بين مباحث الوقف الإسلامي وتطبيقاته، كل هذا ومرافق اجتماعية أخرى أسهم الوقف في تجهيزها وتمويلها زيادة المرافق التعبدية التي كانت مجاله التقليدي.

5. تفعيل دور مؤسسات الزكاة باعتبارها المجهز الرئيس للتمويل اللازم لتأمين كفاية المحتاجين، والزكاة استقطاع مالي جبري دوري من أموال المكلفين، وهي فريضة مالية تمتاز بسعة وعائها وشموله، وبتدرج نسبتها بحسب طبيعة الدخل وتكاليف إحرازه، وتفرض بشروط مخصوصة تتحقق معها العدالة والملائمة واليقين، وتورّد حصيلتها إلى موازنة خاصة (بيت مال الزكاة) ليعاد توزيعها على المستحقين الذين سمتهم آية التوبة الستون. هذا ويلاحظ أن أكثر من كتب عن الضمان والتكافل في الإسلام قد أعتبر الزكاة هي المؤسسة المعنية بموضوع الأمان الاجتماعي، ونحن وإن كنا نقر بأهمية الزكاة كتنظيم تكافلي إلزامي إلا إننا لا نقصر المسؤولية في الأمان والضمان الاجتماعي عليها فقط، إنما ينبغي أن تنهض كل الأطر التي أقرها الإسلام بتكاليفها الشرعية والمدنية، وعلى الترتيب الذي يحقق كفاءة النظام وعدالته.

ب- رصد موارد الاستخلاف الاجتماعي لغايات تمويل الحاجات العامة، وأهم صورها:

1. أصول المنافع العامة؛ فـ "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"، وعلّة منع الاختصاص الفردي بهذه الأصول هو رصدها لإشباع للحاجات العامة وتعميم الانتفاع بها.

2. الحمى، وهو أي مورد يرى ولي الأمر رصده للمصالح العامة، فيمنع تملكه تملكاً خاصاً، وقد جاء هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم مبطلاً لحمى الجاهلية القائم على الأثرة والاحتكار، ومنشئاً للحمى المحقق للصالح العام "لا حمى إلا لله ولرسوله"، وقد حمى هو وخلفاؤه الراشدون حمايات كثيرة محققة لتلك المقاصد ومن أهمها ما حمي لنعم الصدقة والجهاد.

3. إيرادات الدولة من الأملاك العامة؛ فقد رصد النبي صلّى الله عليه وسلّم شطر خيبر للحاجات العامة، ورصد سيدنا عمر رضي الله عنه اراضي الفتوح لتمويل الضمان والاحتياجات العامة، إذ لما فتح الله ارض السواد للمسلمين، أراد بعض الفاتحين اقتسامها باعتبارها غنيمة حرب، لكن سيدنا عمر رفض ذلك ورأى رأياً آخر، فكان يقول لأنصار التقسيم: "ماذا تسد به الثغور (تعبيراً عن الحاجة إلى التمويل للأغراض الدفاعية)، وماذا يكون للذرية والأرامل (تعبيراً عن حاجة الدولة إلى التمويل اللازم للضمان الاجتماعي) وماذا يكون لمن يأتي من بعدهم (تعبيراً عن احتياجات الأجيال اللاحقة)". وقد اعتضد رأي سيدنا عمر بمشورة سيدنا معاذ رضي الله عنهما: "والله إذاً ليكونن ما تكره، إنك إن قسمت صار هذا الريع إلى الرجل والمرأة، ثم يبيدون ثم يأتي قوم يسدون من الإسلام مسداً، ولا يجدون شيئاً، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم"، وبالمعنى نفسه كانت مشورة سيدنا علي رضي الله عنه "دعهم يكونوا مادة للمسلمين"، وأخذاً بهذه المقاصد واستئناساً بآيات سورة الحشر: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ..."، كان القرار العمري الراشد بوقف أرض السواد، ثم تقرر مثل ذلك لما فتحت الشام ومصر.

4. الثروات المعدنية الظاهرة، وعموم الثروات المعدنية على الراجح، فقد ثبت إن النبي صلّى الله عليه وسلّم اقطع مملحة بمأرب للأبيض بن جمال المأربي، لكن الصحابة لفتوا نظره الشريف إلى أن الملح فيها " كالماء العد"، أي ظاهر بلا جهد ونفقة، فلما علم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، استرجعها منه. وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: "ما كان فيه منفعة بلا نفقة على من حماه فليس له من يحميه، ومثل هذا كل عين ظاهرة كنفط أو قار أو كبريت"، والراجح بصدد عموم المعادن هو منع الاختصاص فيها ورصدها للحاجات العامة وهو رأي المالكية؛ فالمشهور عندهم أن المعدن لا يجري عليه الملك الخاص ولو وجد في أرض مملوكة ملكية خاصة، إنما يكون للأمة يديره الإمام على ما يراه محققاً لمصلحتها. وقد استمثل الشيخ ابو زهرة رأي المالكية وسدده في ترجيحاته بين الاراء الفقهية بصدد ملكية المعادن، وذلك تحقيقاً لمقاصد التكافل الاجتماعي.

ج- تأكيد مسؤولية الموازنة في تأمين الكفاية أو إتمامها.

أما المصدر الثالث لتمويل الضمان فهو (بيت المال) أو ما يعرف في الفقه المالي الإسلامي تغليباً ببيت مال الخراج وهو يقابل الموازنة بمصطلحات المالية العامة المعاصرة، ولبيت المال موارد كثيرة (إيرادات عامة) بسطتها كتب المال، والدولة تستخدم حصيلة إيراداتها العامة المختلفة تلك لتمويل الخدمات السيادية والبنى الارتكازية وكل مفردات العرض العام من تعليم وصحة وتدريب وكل ما لزم الناس، فضلاً عن تأمين الكفاية أو إتمامها لعموم المواطنين إن عجزت مواردهم الذاتية وأطر التكفيل الأخرى عن تأمينها.

وسبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

متصفح المقالات