كفاءة النظام الاقتصادي الإسلامي

تعبيرية تعبيرية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: يتكون أي نظام اقتصادي من شقين: الأول يتمثل بمجموعة القناعات العقدية والنظرية والترجيحات القيمية التي يؤمن بها المجتمع بصدد تسيير نشاطه المعيشي وأسلوب الحياة الاقتصادية. أما الشق الثاني فيتمثل بتشكيلة المؤسسات القادرة على إحلال تلك القناعات في واقع الحياة عملياً؛ وعلى هذا فالنظام الاقتصادي الإسلامي، هو تجسيد للمذهب الاقتصادي الذي يقوم على منظومة عقدية وتشريعية وقيمية فارقة تتلخص بالإيمان بمبدأ الاستخلاف عقيدة وشريعة. والذي يقيم مفاصلة واضحة بين غايات الإنسان ووسائله، ويقيم موازنة فريدة بين أهداف الإنسان الدنيوية والأخروية؛ بين الحاجات الروحية والحاجات الجسدية؛ بين الفرد والجماعة؛ بين شكلي الملكية الخاصة والعامة؛ بين آلية السوق والإدارة الاقتصادية. وتتجلى كفاءة النظام اقتصادي في قدرته على تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية، وكما يتضح من الإيجاز الآتي:

 

أهداف المجتمع الاقتصادية

تشترك المجتمعات الإنسانية، والمجتمع الإسلامي منها، بجملة أهداف اقتصادية تتمثل في الكفاءة والنمو والعدالة والاستقرار؛ وفيما يلي إيضاح للموقف من هذه الأهداف:

 (1) الكفاءة الإنتاجية:

ويقصد بها استغلال موارد المجتمع الطبيعية والبشرية والمالية بما يحقق إحراز أكبر ناتج ممكن من الطيبات (السلع والخدمات) التي تشبع حاجات أبنائه. والسعي لتحقيق هذا المقصد يُعدُّ من الرشد والحكمة التي ينشدها الإسلام في مجال التعامل مع الموارد، دلت على ذلك أحكام كثيرة أوجبت استغلال الموارد البشرية فمنعت التعطل وأوجبت العمل وحببت فيه وجعلت الحرف المختلفة من فروض الكفاية، كما دعت لاستغلال الموارد الطبيعية عبر أحكام الإحياء والإقطاع والاستزراع والتعدين، ودعت لاستثمار الموارد المالية كذلك فمنعت الاكتناز والربا والمضاربة في النقد وشرعت المشاركات وصيغ التمويل المختلفة لهذا الغرض، وأصول كل ذلك ظاهر في التشريع الاقتصادي الإسلامي.

 (2) النمو الاقتصادي:

نعني بالنمو الزيادة الحقيقية المستمرة في نصيب الفرد من الناتج القومي عبر الزمن. ويعد النمو هدفاً للمجتمعات المختلفة لأنها تطمح دائما إلى تحسين أوضاعها المعيشية السائدة من جهة، ولأنها تدرك أن هناك زيادة طبيعية في السكان تستلزم إن يزداد الناتج بما يؤمن مواجهة هذه الزيادة السكانية من جهة أخرى، وكل ذلك لا يتحقق إلا بتنمية المقسوم الاجتماعي.

 ولابد أن نشير إلى أن الزيادة في نصيب الفرد من الناتج القومي هي مؤشر إحصائي يفقد الكثير من دلالته ومغزاه إذا لم يقترن بعدالة التوزيع، كما أننا قيدنا الزيادة في هذا المؤشر بكونها حقيقية وذلك لاستبعاد أثر التضخم أو الارتفاع في المستوى العام للأسعار، ثم إننا اشترطنا استمرارها عبر الزمن تلافياً لأي طفرة طارئة لا تعكس ارتقاءً وطيداً في أداء النظام الاقتصادي، كما أننا اعتمدنا نمو نصيب الفرد من الناتج ولم نعتمد نمو حجم الناتج الكلي بشكل مطلق، لما تقدم من العلاقة بين السكان والزيادة الطبيعية فيه من جهة والناتج ونموه من جهة ثانية.

 والمجتمع المسلم حينما يطمح في الكفاءة الإنتاجية هدفاً آنياً وفي النمو الاقتصادي هدفاً مستقبلياً، لا تحكمه في كل ذلك النزعة الاستهلاكية (أو هكذا يفترض؛ فهو مجتمع يأكل ليعيش لا يعيش ليأكل)، إنما يسعى لتحقيق الكفاءة الإنتاجية والنمو لأنهما شرطان لتحقيق الكفاية والكفاية مطلب شرعي مؤصل وهو مدعو لتأمينها لأبنائه؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن ناحية أخرى فإن المجتمع الإسلامي مكلف بالدعوة والبلاغ وهذا يستلزم استجماع أسباب القوة الاقتصادية والتكنولوجية التي تلزم لذلك.

 (3) الكفاءة التخصيصية:

ويقصد بها أن يكون الإنتاج المتحقق من السلع والخدمات متوافقاً مع الحاجات الحقيقية للمجتمع؛ ويتأكد ذلك من خلال توكيد الإسلام مبدأ ترتيب الحاجات، ووجوب السعي لإشباعها بحسب أهميتها: إذ لا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي ولا يراعى حاجيّ إذا كان في مراعاته إخلال بضروري، وهذا أصل يحكم تخصيص الموارد في اقتصاد إسلامي. ومن ناحية أخرى تسهم العدالة التوزيعية في تمليك المواطنين وحدات الدخل ووسائل الدفع التي تؤمن لهم الكفاية النسبية وبذلك فهي تؤمِّن اقتراعاً ديموقراطياً على استخدامات الموارد، ويتعزز كل ذلك بمنظومة القيم الإسلامية التي تضبط الاستهلاك وتمنع ظهور أنماط الطلب الشاذة التي تعاني منها الاقتصادات المختلفة.

(4) العدالة التوزيعية:

ويقصد به أن تتم عملية قسمة الدخل والثروة بين أفراد المجتمع على نحو عادل، ومفهوم العدالة من المفاهيم النسبية التي يختلف في تحديدها الناس كثيراً، ولكن على العموم يرى الاقتصاديون أنه كلما قلّ التفاوت في حصص الأفراد من المقسوم الاجتماعي، كان نظام التوزيع أكثر عدلاً. ولا يدعي أحد من الاقتصاديين الإسلاميين تعريفاً ذاتياً للعدالة إنما يؤمن الجميع بأن العدالة التوزيعية قرينة حصراً بإنفاذ أحكام المذهب الاقتصادي في الإسلام فهو قسمة الله الحَكَم العدل بين خلقه.

 ويتحقق هذا الهدف عبر إقامة أحكام كثيرة؛ ففي مجال التوزيع الابتدائي يربط الإسلام بين نشأة حق التملك ودوامه بالعمل الاقتصادي والمشاركة الإيجابية بالنشاط الاقتصادي. وفي مجال التوزيع الوظيفي نجد الإسلام يحرم المكافآت الطفيلية كما يتضح من أحكام الربا والميسر ويشترط مشاركة جادة في النشاط الاقتصادي كشرط للجلوس إلى مائدة التوزيع. وفي مجال إعادة التوزيع نجد أن الإسلام يشرع الزكاة وهي الحد الأدنى من إعادة التوزيع الذي تُلزم به الإدارة الاقتصادية، ويندب الفرد إلى أبعد من ذلك (يندب إلى بذل الفضل) من خلال الأحكام ومنظومة القيم الإسلامية.

 وهكذا يلاحظ أن الإسلام تتعايش في نظامه التوزيعي اعتبارات العمل والملكية والحاجة كأسس حقوقية ترعى اعتبارات العمارة والعدالة في الوقت ذاته. إن العدالة التوزيعية للمال تبقى بعداً واحداً من أبعاد العدالة الاجتماعية التي تستلزم عدالة توزيع القوة السياسية بين أفراد المجتمع، وفك الارتباط السلبي بين الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعية وتأمين فرص متكافئة للمواطنين، وهي شرائط يكفلها المذهب الاقتصادي في الإسلام على نحو لا يتحقق في المذاهب الاقتصادية الأخرى.

 (5) الاستقرار الاقتصادي:

يقصد بالاستقرار الاقتصادي عموماً تجنب التقلبات الحادة في أسعار المنتجات وأسعار الصرف وأسعار الصادرات وتجنب التقلبات في مستويات التوظيف، لما لكل ذلك من آثار سلبية على النشاط الاقتصادي وعلى الرفاهية الاجتماعية. والمجتمع المسلم حريص على تحقيق الاستقرار في الأسعار (في قيمة النقود) فذلك شرط لعدالة البيوع والمبادلات والمشاركات والمضاربات، ومن ثم فهي شرط لسلامة العقود إجمالاً خاصة تلك التي تمتد عبر الزمن، والقاعدة تقضي بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

 إن اضطراب قيمة النقد (التضخم أو الانكماش) يسيء إلى توزيع الدخل ويطفف قيمة الملكية المصانة شرعاً، وهو يبدد فرص الاستثمار الحقيقي والنمو، وكل هذا لا يريده الإسلام قطعاً. ومن ناحية أخرى تترك التقلبات الحادة في أسعار الصرف وأسعار الصادرات آثاراً سلبية على حصيلة الصادرات ومن ثم على برامج الدولة وخططها الاقتصادية، لذلك فإن المجتمع المسلم لا شك يسعى إلى الاستقرار لأنه شرط للكفاءة والعدالة وللكفاية بعدُ، وهي مقاصد مرعية إسلامياً.

 المشكلة الاقتصادية وكفاءة مواجهتها

إن كفاءة النظام الاقتصادي في الإسلام تحتم عليه تشخيص المشكلة الاقتصادية على نحو إيجابي، والتصدي لمعالجتها بجدية. والإسلام لا ينكر وجود ما يسمى بالمشكلة الاقتصادية المركزية؛ فمقتضيات الخطاب القرءاني تؤكد ذلك فمنذُ أسكن أبونا آدم عليه الصلاة والسلام الجنة ناداه ربه: "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طـه: 118، 119)، وفحوى هذا الخطاب أن وجود الإنسان خارجها ينطوي على تفتق سيل الحاجات البشرية (الجوع والعري والضمأ...) التي تستلزم السعي والعمل لإشباعها، وهو مقصد من مقاصد استخلاف الإنسان على الأرض: "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: 61)؛ فالحاجات هي الحافز للنشاط الاقتصادي ووسائل إشباعها متاحة في الطبيعة ولكن بصورة موارد تستلزم تفعيل دور الإنسان وسعيه لاستيلاد الطيبات منها، وبما يكفل إنجاز شروط الاختبار الإنساني الذي أراده المولى تعالى لهذا الكائن الخليفة المُمتَحَن والمتمثلة بما يعرف بالندرة النسبية.

 وقدر تعلق الأمر بمساحة الاختيار البشري فالمشكلة الاقتصادية هي (مشكلة سلوكية) يتسبب فيها الإنسان حين يكسل عن استغلال موارد بيئته، وهي مشكلة سلوكية حين يفرّط الإنسان في الاستهلاك ويتجاوز الحد اللازم لكفايته، وهي مشكلة سلوكية أيضاً حينما تسود الأثرة والظلم توزيع الثروة والموارد والدخول، والمشكلة أيضاً مشكلة سلوكية حين يتجاوز الإنسان على مجتمعه فيعطل أدوات هذا المجتمع التي تيسر النشاط الاقتصادي (اكتناز النقد)، وهي مشكلة سلوكية أيضاً حين يعمد هذا المتعسف إلى محاولة ابتزاز المجتمع فلا يعيد إليه أداته (النقود) إلا بمقابل جزية هي الفائدة أو الربا.

 ثم إن المشكلة بعد ذلك مشكلة (مؤسسية) تنجم عن تنصل الدولة عن أداء وظيفتها في ضبط الأسواق وفي إعادة التوزيع من خلال إنفاذ أحكام الزكاة وإنهاء الربا، وهي مشكلة مؤسسية أيضاً تنجم عن غياب ضوابط الجغرافية السياسية الإسلامية والاستعاضة عنها بجغرافية أنانية الطابع تحول دون انتفاع أبناء الأمة بمواردها. ولكل ما تقدم فإن البناء التشريعي والمؤسسي الإسلامي جاء يحتوي هذه الميول السلوكية والثغرات المؤسسية عبر:

تعبئة الموارد البشرية والطبيعية والمالية للنشاط الاقتصادي ومنع تعطلها كما تقدم.

تأشير الحاجات وضبط السعي لإشباعها حسب معيارية وسطية الاستهلاك والإنفاق الاستهلاكي: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الأعراف: 31)، "وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً" (الإسراء: 29)، "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً" (الفرقان: 67).

تكييف نظام التملك ليحقق أهداف العمارة العادلة من خلال توكيد الوظيفة الاجتماعية للاستخلاف الخاص (الملكية الخاصة) ومن خلال صور الاستخلاف الاجتماعي مثل أصول المنافع العامة والحمى والوقف وأصول الثروات المعدنية وأراضي الفتوح.

الارتقاء بالالتزام الاجتماعي بنظام التوزيع وذلك بتأكيد البعد العقدي والتشريعي والقيمي لهذا الالتزام كما يتضح من أجلى حكمين اقتصاديين حفل بهما المذهب الاقتصادي الإسلامي: تحريم الربا وإيجاب الزكاة.

توكيد الوظيفة الاقتصادية للدولة، فالدولة الإسلامية قيمِّة على النشاط الخاص فيتوجب عليها رقابة الأسواق ومنع الاحتكار والاستغلال وسوء استخدام الحق الفردي: فـ"لا ضرر ولا ضرار"، وهي مشاركة في النشاط الاقتصادي من خلال موضوعات الاستخلاف الاجتماعي؛ تملكها وتديرها، وهي مكلفة بإعادة التوزيع من خلال الزكاة: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (التوبة: 103)، وهي مسؤولة عن الضمان الاجتماعي تجاه رعاياها؛ فمن مات وترك مالأً فلورثته ومن ترك كلاً أو عيالاً فإلى دولة الإسلام وعليها كما ورد في الحديث. والدولة المسلمة مسؤولة عن الاستثمار البشري (الاستثمار في الإنسان بالتعليم والتدريب والصحة والترفيه) باعتبار الإنسان هدفاً للتنمية قبل أن يكون وسيلة لها، والدولة المسلمة مكلفة بإعداد البنى الارتكازية كشرط مسبق للنشاط الاقتصادي الخاص والعام، وهي معنية بتأمين العرض العام اللازم للرفاهية الاجتماعية.

إن كفاءة النظام الاقتصادي الإسلامي يمكن إيضاحها كذلك من اختبار النظم الفرعية التي تشكل بمجموعها وتناغمها النظام الاقتصادي الإسلامي مما ضاق الحديث عنه في هذه العجالة. وبقدر ما يكون المجتمع ملتزماً بالنظام الاقتصادي الذي يقترحه الإسلام يجني ثمرة التزامه رفاهية واستقراراً.

و"سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".

 

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

متصفح المقالات