صيامنا .. بين المأمول والواقع

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين. وبعد؛ فقد قضت حكمة الله تعالى أن تجعل مقصد حفظ النفس وحفظ النوع في مملكة البشر يمر عبر نوازع فطرية داخلية مدمجة (Built-in instincts)، وأن يكون ضبط هذه النوازع والتحكم بها يتم عبر موجهات تشريعية وأخلاقية خارجية، هذه هي خصوصية الإنسان وربما هي سر تكليفه وسر تكريمه أيضاً.

إن وجود الإنسان على هذه الأرض رهين بالاستجابة للنوازع الفطرية التي تديم حياته (بالأكل والشرب ... إلخ)؛ أي رهين بالاستهلاك. والمعطيات الشرعية تؤكد احترام هذه الفطرة التكوينية وتدعو إلى استهلاك الطيبات: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق..." (الأعراف: 32)، وتدعو إلى التوسط في ذلك: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" (الأعراف: 31). إذن هي وسطية وظيفية: الاستهلاك حصراً من الطيبات التي تديم طاقات الإنسان الجسدية والعقلية والروحية، وبالقدر الذي يلزم لذلك ... لكن هذه الوسطية والوظيفية مطلوبة في الاستهلاك وفي الإنفاق الاستهلاكي في شهر رمضان وفي غيره؛ فما الجديد مع الصيام؟

الصيام: امتناع عن المفطرات الحسية وتعاهد على الامتناع عن المفطرات المعنوية ... إنه تحكم إرادي على نية وبصيرة تحصيلاً للمقصد: "لعلكم تتقون". إنه ممارسة أخلاقية تربوية لبناء الإرادة الذاتية واستكمال مهارات التحكم حتى يكون أبناء الأمة "كنبت رُبى من شدة الحَزْم لا من شدة الحُزُم"؛ فمن يملك نفسه في رمضان عن المباح الحلال فهو لها عن الحرام أملك.

والحاجة الفطرية أيضاً هي التي تعمل على حفظ نوع الإنسان واستمرار وجوده بالتناسل، والإسلام يحتفي بهذه الحاجة أيما حفاوة؛ فالزواج علاقة شرعية موقرة تقوم على أساس التكامل الفطري والنفسي بما ينجم عنه من نسل مبارك جدير بالاستخلاف الرشيد على هذه الأرض ... وفي شهر رمضان ترويض وتمرين للتحكم في المباح، حتى يتمكن المجتمع من التحصن من كل ما يخرج بهذه السنة الخلقية إلى غير التصور الوظيفي الشرعي؛ وبهذا الترويض يستعلي المجتمع المسلم على السلوكات العبثية التي تعاكس الفطرة وترتكس في الرذيلة: ... فلا للمثلية ... ولا للشذوذ ... ولا للسفاح ... لا للخدانة ... إن مجتمعاً يجهل قدر الأسرة أو يتجاهلها يحكم على نفسه بالفناء. 

وإذا كانت الحاجات البشرية نوازع فطرية لحفظ النفس (بالتغذي)، واستمرار الوجود (بالتناسل)؛ فإن حماية هذه النفس وحماية هذا الوجود يلزم لها مطلب آخر هو (القوة)؛ وإنها لجُبلَة فطرية أن تستجمع الأم قوتها لتحمي أولادها، وأن يستجمع الأب قوته ليحمي أولاده وأمهم. هذه سنة خلقية فطرية نشاهدها في ممالك الحيوان المختلفة، ومملكة البشر لا تخرج عن ذلك. إذن القوة مطلوبة، لكن بالقدر وبالاتجاه الذي يلزم لتحقيق الحماية للفرد وللأمة، ...، والصوم تمرين على التحكم بالقوة. نفهم هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم:

"لا تغضب" (البخاري: ر5765)، لأن الغضب يخرج القوة عن نطاقها الوظيفي وتصبح عنفاً غاشماً مدمراً لصاحبه ولمن حوله. ونفهم هذا أيضاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم:

"ليس الشديد بالصُّرَعة (المصارع القوي)؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (البخاري: ر5763).

  • الشديد الذي يستعلي على الاستفزار: "فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل إني صائم".
  • الشديد الذي يملك نفسه عند الصوم "فلا يرفث ولا يفسق".
  • الشديد الذي يصوم حتى يملك نفسه ولا تملكه نفسه!!.

الشديد هو الذي يعرف أين تتجه هذه القوة استجابة للدواعي التشريعية (إنفر، قاتل، جاهد...). ومن هنا نفهم كيف يكون الحلم سيد الأخلاق، وكيف يكون خصلة يحبها الله في خلقه، ومن هنا نفهم كيف يكون أبناء المجتمع المسلم: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" (المائدة: 54). ومن هنا نفهم الطموح النبوي في أن تصبح مكارم الأخلاق حالة جماهيرية واقعية في الأمة لا مثلاً شروداً كما يصوِّر الشعراء في ممدوحيهم.

ومن كل ما تقدم نفهم أن الصوم ليس امتناعاً سلبياً إنما هو: بصيرة عقلية في فهم الذات وإرادة واعية للتحكم فيها؛ وكما قال شوقي: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوم النفس بالأخلاق تستقم

النتائج المأمولة

إن النتيجة الكبرى المأمولة من هذا الترويض هي التزكية والتمكين؛ هي التقوى: أحكم نفسك في شهر رمضان .. تحكمها بعد رمضان ... أحكم نفسك .. تحكم العالم من حولك. ومن الثمار المأمولة المصاحبة لهذا البرنامج الترويضي:

صحة الأبدن: ... لأننا نخفف العبء عن جهاز الهضم وعن جهاز الدوران ... لأننا نستنفر في أجسامنا جهاز المناعة ... لأننا نحرر ما اكتنزنا من لحوم وما طبقنا من شحوم. ومنها: ترشيد الإنفاق ... التخفف من المشتريات ... ومنها: أن تكون لدينا فوائض من وقت توجه للعبادة والقراءة والتزكية الثقافية.

المكاشفة الصادمة

لكن الواقع يكشف عن مفارقة صادمة!! إن شهر الصيام قد تحول إلى كرنفال استهلاكي كبير!!؛ يزيد فيه الاستهلاك كماً وقيمةً، ومع زيادة الإنفاق الاستهلاكي يزيد الطلب وتكون الظروف في الأسواق مهيأة أكثر فأكثر لقيام الاحتكار، وبدلاً من أن نرخص أسعار السلع بتركها على مقتضى التوجيه العمري نغليها بالتهافت على التسوق!! ... وعلى صعيد الإرادة والتحكم؛ نلحظ أن الله يوفق لها من أحب، وهو أمر ظاهر بإجمال والحمد لله، ومع ذلك لا تخفى سلوكات أُناس يركبهم الغضب والنزق فتراه هائجاً مائجاً مستفزاً لسبب ولغيرما سبب؛ لا لشيء إلا لأنه صائم؛ فكأنه يمن على الله صيامه!!.

وعلى حين يوفق الكثير من الصائمين لأوضاع صحية بالتزامهم السنة، يفوّت فريق آخر على أبدانهم تلك البركة بكثرة الاستهلاك وثقالته. ومالياً يلحظ وكاتجاه عام زيادة الإنفاق الاستهلاكي وربما على نحو يتجاوز الدخول. وعندما يغيب التوجيه القرءاني: "... لينفق ذو سعة من سعته ... لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ..." (الطلاق: 7) عن قراراتنا الإنفاقية تكون النتيجة ولابد هي تراكم المديونية.

ويكشف الواقع أيضاً أن التوسع الاستهلاكي الواضح في شهر رمضان يستغرق فوائض الوقت التي كان يمكن أن توجه لمزيد من التزكية والترقية؛ وينحرف بها نحو التسوق وإعداد الموائد وما يلزم لها من مقدمات ومعقبات.

مأسسة الإنفاق الخيري

وفي شهر رمضان تتعزز المشاعر الإنسانية ويتحسس الناس احتياجات الفقراء؛ فتجود نفوسهم وتسخو أيديهم.  والحق أن المسلمين لا ينقصهم الوعي بأهمية الإنفاق الخيري ومثوبته في الأوقات العادية فضلاً عن شهر الصيام، ولا تنقصهم الحوافز والدوافع الذاتية فهم بحمد الله على خير كثير، لكن ما ينقصهم هو مأسسة فعل الخير ... مأسسة الزكاة ... مأسسة الإنفاق الخيري، مأسسة الأمر بالمعروف، مأسسة النجوى الخيِّرة: إن الطبق الخيري ... الكوبون الخيري ... الحساء الخيري ... المطعم الخيري ... التوصيل الخيري ... ؛ كل هذه خواطر تلوح في ضمير المسلم وخياله؛ لكنها تظل كذلك ما لم تجد لها أطراً تنفيذية لتطبيقها في الواقع: ... كيف تتضام الجهود؟  ... كيف تتضام النفقات؟ كيف تنفذ إرادة الخير لتصل ثمارها إلى المستحقين؟، كل ذلك بحاجة إلى عمل مؤسسي ... ولعل التجارب الرائدة في حواضر العالم الإسلامي قديماً وحديثاً جديرة بالتقدير وهي أيضاً جديرة بالاستلهام والمحاكاة. هذا، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

...

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com
متصفح المقالات