زكاة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد؛ زكاة الفطر أو صدقة الفطر فريضة ماليَّة محددة، تجب في ذِمَّة المسلم بانقضاء شهر الصوم. سميت صدقة الفطر على الأرجح لأنها أضيفت إلى سبب وجوبها أو إلى وقت وجوبها وهو الفطر بعد الصوم، وقيل بل هي زكاة الفطرة أي الخِلقْة: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" أي الزكاة على البدن في مقابل زكاة المال (البحر الرائق، 2: 270/ مغني المحتاج، 1: 401).

حكمها:

يرى جمهور الفقهاء أنَّ زكاة الفطر من الفروض لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم زكاة الفطر صاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً من شعيرٍ، على الْعبدِ والحُرِّ والذَّكر والأنْثى والصَّغير والكبير من المسلمين، وأَمر بها أَنْ تُؤدَّى قَبْلَ خُرُوج النّاس إلى الصلاة" (البخاري، 2: 547).

قال الشوكاني: "قوله: (فرض) فيه دليل على أنَّ صدقة الفطر من الفرائض، وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب قالوا إذ لا دليل قاطع تثبت به الفرضية ... ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية قالوا: ومعنى قوله في الحديث (فرض) أي قدَّر وهو أصله في اللغة" (نيل الأوطار، 4: 250).

وقد صرَّح الحنفية بموقفهم من حكم صدقة الفطر ومسلكهم الأصولي في ذلك: "وعندنا هي واجبة لأنَّ ثبوتها بدليل موجب للعمل غير موجب علم اليقين وهو خبر الواحد وما يكون بهذه الصفة يكون واجباً في حق العمل ولا يكون فرضاً حتى لا يكفر جاحده إنما الفرض ما ثبت بدليل موجب للعلم" (المبسوط، 3: 101).

وعند الجمهور أداء زكاة الفطر داخل في عموم الأمر بإيتاء الزكاة وأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بيَّن تفاصيل أحكام الزكاة ومن جملتها زكاة الفطر. وجاء عن بعض السلف تأويلهم قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصلَّى" (الأعلى: 14، 15) بزكاة الفطر وصلاة العيد (الكشاف، 4: 742/ ابن كثير، 4: 502).

حكمتها:

زكاة الفطر طهرة وطعمة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" (الدارقطني، 2: 138، واللفظ له/ أبو داود، 2: 111/ ابن ماجه، 1: 585). وعن وَكِيعٍ بْنِ الْجَرَّاحِ رحمه الله: "قال زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدتي السهو للصلاة تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة" (المجموع، 6: 120).

وقت وجوبها ووقت أدائها:

تجب زكاة الفطر في ذِمَّة المسلم بغروب شمس آخر يوم من رمضان ودخول شهر شوال على الراجح؛ فمن بلغ ذلك حياً مسلماً وجبت بذمته صدقة الفطر ومن لم يبلغ ذلك فلا صدقة عليه (المغني، 2: 359)، وقال فريق من أهل العلم تجب بطلوع فجر يوم عيد الفطر فمن أدرك ذلك وجبت في ذمته زكاة الفطر وإلا فلا.

ووقت أدائها يمتد إلى صلاة العيد؛ لحديث ابن عمر: "... وأَمر بها أَنْ تُؤدَّى قَبْلَ خُرُوج النّاس إلى الصلاة"، ولحديث ابن عباس: "... مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ".

ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين لما في الصحيح: "... وكَانُوا يُعْطُونَ قبل الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ" (البخاري، 2: 549)، وقال الشوكاني في بيان حكم تأخيرها: وَالظَّاهِرُ أَنَّ من أَخْرَجَ الْفِطْرَةَ بَعْدَ صَلاةِ الْعِيدِ كان كَمَنْ لم يُخْرِجْهَا بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاكِهِمَا في تَرْكِ هذه الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وقد ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ إخْرَاجَهَا قبل صَلاةِ الْعِيدِ إنَّمَا هو مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ وَجَزَمُوا بِأَنَّهَا تُجْزِئُ إلَى آخِرِ يَوْمِ الْفِطْرِ.

وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عن يَوْمِ الْعِيدِ فقال ابن رَسْلانَ إنَّهُ حَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ في تَأْخِيرِهَا إثْمٌ كما في إخْرَاجِ الصَّلاةِ عن وَقْتِهَا وَحُكِيَ في الْبَحْرِ عن الْمَنْصُورِ بِاَللَّهِ أَنَّ وَقْتَهَا إلَى آخِرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ من شَهْرِ شَوَّال" (نيل الأوطار، 4: 256). وقال الحنفية لصدقة الفطر: "أَحْوَالٌ أَحَدُهَا قبل دُخُولِ يَوْمِ الْعِيدِ وهو جَائِزٌ. ثَانِيهَا يَوْمُهُ قبل الْخُرُوجِ وهو مُسْتَحَبٌّ. ثَالِثُهَا يَوْمَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ وهو جَائِزٌ. رَابِعُهَا بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ وهو صَحِيحٌ ويأثم بِالتَّأْخِيرِ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِالْأَدَاءِ" (البحر الرائق، 2: 171).

على مَنْ تجب؟... ومصرفها:

تجب زكاة الفطر على المسلم يخرجها عن نفسه وعمن يعول ممن تلزمه نفقتهم لحديث ابْنِ عُمَرَ الذي تقدم قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"، صام أو لم يصم (كأن كان مريضاً أو مسافراً)، ويستحب إخراجها عن الجنين. ويعتمد مكان إقامة المُكلَّف لتحديد المحلية في زكاة الفطر (زكاة البدن) بخلاف زكاة المال التي يلحظ فيها محل المال لا إقامة مالكه عند صرفها، ولزكاة الفطر مصرف وحيد سمته الأحاديث الشريفة هو المساكين، ولا يجوز صرفها إلى أصول المزكي وفروعه ومن تلزمه نفقتهم.

شرط صدقة الفطر:

ذهب الحنفية إلى أنَّ صدقة الفطر لا تجب إلا على مَنْ ملك نصاباً أو قيمة نصاب فاضل عن حاجته (البدائع، 5: 64/ تبيين الحقائق، 1: 306). في حين ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم اشتراط النصاب، بل وإلى عدم اشتراط الكفاية، "قال الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ من دخل عليه شَوَّالٌ وَعِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ من يَقُوتُهُ يَوْمَهُ وما يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عنه وَعَنْهُمْ أَدَّاهَا عَنْهُمْ وَعَنْهُ وَإِنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا ما يؤدى عن بَعْضِهِمْ أَدَّاهَا عن بَعْضٍ وَإِنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ سِوَى مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَتِهِمْ يَوْمَهُ فَلَيْسَ عليه وَلَا على من يَقُوتُ عنه زَكَاةُ الْفِطْرِ" (الأم، 2: 64).

وقد أجمل ابن قدامه أراء الفقهاء وأدلتهم بقوله: "صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها، ولا يعتبر في وجوبها نصاب، وبهذا قال أبو هريرة وأبو العالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي: لا تجب إلا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، والفقير لا غنى له فلا تجب عليه، ولأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها. ولنا: ما روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: أدُّوا صدقة الفطر صاعاً من قمح أو قال بر عن كل إنسان، صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى" (المغني، 2: 362).

قَدْرُ صدقة الفطر:

تقدم الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم زكاة الفطر صاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً من شعيرٍ،..."، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "كنا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا من طَعَامٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أو صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من أَقِطٍ أو صَاعًا من زَبيب" (البخاري، 2: 548)، وهذا مذهب الجمهور في مقدار الفطرة صاعاً من طعام مطلقاً.

أما الحنفية فيرون نصف الصاع من البُرِّ يجزئ ويحتجون لذلك بمرويات منها: عن نَافِعٍ عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: "فَرَضَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صَدَقَةَ الْفِطْرِ أو قال رَمَضَانَ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ فَعَدَلَ الناس بِهِ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ" (البخاري، 2: 549 واللفظ له/ مسلم، 2: 677).

ومنها ما أخرجه أبو داود عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "قال كنا نُخْرِجُ إِذْ كان فِينَا رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم زَكَاةَ الْفِطْرِ عن كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أو مَمْلُوكٍ صَاعًا من طَعَامٍ أو صَاعًا من أَقِطٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أو صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من زَبِيبٍ فلم نَزَلْ نُخْرِجُهُ حتى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أو مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ الناس على الْمِنْبَرِ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ الناس أَنْ قال إني أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ من سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا من تَمْرٍ فَأَخَذَ الناس بِذَلِكَ فقال أبو سَعِيدٍ فَأَمَّا أنا فلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا ما عِشْتُ. قال أبو دَاوُد رَوَاهُ بن عُلَيَّةَ وَعَبْدَةُ وَغَيْرِهِمَا عن ابن إسحاق عن عبد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن عُثْمَانَ بن حَكِيمِ بن حِزَامٍ عن عِيَاضٍ عن أبي سَعِيدٍ بِمَعْنَاهُ وَذَكَرَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فيه عن بن عُلَيَّةَ أو صاع حِنْطَةٍ وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ" (أبو داود، 2: 113).

قال البيهقي: "... فالأخبار الثابتة تدل على أنَّ التعديل بمُدَيْن كان بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم" (السنن الكبرى، 4: 169). والذي يبدو واضحاً أنَّ التعديل بين صاع التمر أو صاع الشعير ومُدَي القمح قام على أساس القيمة؛ وإذ لم يذكر القمح في الحديث، وكان إخراج التمر أو الشعير مجزئاً (وهما في نظر المستفيد أدنى من القمح) كان التخيير بين الصاع من أحدهما ومُدَي القمح معلولاً بمصلحة الفقير.

والصاع هو وحدة من وحدات الكيل المعروفة في المجتمع المدني، ومن أجزائه المُد (الصاع يساوي أربعة أمداد، والمُد هو مِلءُ كفَّيِّ الرجل معتدل الخِلْقة) ومن مضاعفاته الوسق. وقد قدَّرت ندوة الزكاة التاسعة الصاع بوحدات الوزن المعاصرة بما يساوي (2040) غراماً وهو مطابق لتقدير الشيخ ابن عثيمين (نوازل الزكاة: 103).

وقدَّره الشيخ القرضاوي بما بساوي (2176) غراماً. وقال بيان دائرة الإفتاء العام الأردنية حول زكاة الفطر لعام 1430هـ: "والصاع يساوي (2.5) كغم تقريباً".

وذكر الشيخ عبد الملك السعدي في فتوى له عن أحكام الفطرة منشورة على موقعه أنَّ الصاع الذي أخذ به أبو حنيفة ومحمد هو صاع سيِّدنا عمر ويساوي (3500) غراماً وميَّزه عن صاع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الذي قال إنَّه يساوي (2550) غراماً، ولم أقف على دليله في ذلك، لكن خلاف الحنفية والجمهور في قَدْر الصاع مشهور، والراجح فيه قول الجمهور لما عُلِم من رجوع أبي يوسف إلى تقدير الجمهور بعد محاورته مع الإمام مالك في الموسم في حضرة الرشيد، وبذلك يضيق مدى الاختلاف كثيراً، والله أعلم.

صفة صدقة الفطر:

أما صفة صدقة الفطر فهي عند الفقهاء على أقوال: أولها يجوز إخراجها من كل قوت لأثر أبي سعيد وفيه لفظ الطعام، وثانيها من غالب قوت المُكلَّف بها لأنها الفاضل عن قوته، وثالثها من غالب قوت البلد لأنها حق يجب في الذِمَّة تعلق بالطعام كالكفارة (أضواء البيان، 8: 285).

ولاحظ ابن القيم: "أَنَّ النبي صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أو صَاعًا من زَبِيبٍ أو صَاعًا من أَقِطٍ وَهَذِهِ كانت غَالِبَ أَقْوَاتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ فَأَمَّا أَهْلُ بَلَدٍ أو مَحَلَّةٍ قُوتُهُمْ غَيْرُ ذلك فَإِنَّمَا عليهم صَاعٌ من قُوتِهِمْ كَمَنْ قُوتُهُمْ الذُّرَةُ أو الأرز ... أو غَيْرُ ذلك من الْحُبُوب؛ فإنْ كان قُوتُهُمْ من غَيْرِ الْحُبُوبِ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالسَّمَكِ أَخْرَجُوا فِطْرَتَهُمْ من قُوتِهِمْ كَائِنًا ما كان هذا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وهو الصَّوَابُ الذي لَا يُقَالُ بِغَيْرِهِ إذْ الْمَقْصُودُ سَدُّ خُلَّةِ الْمَسَاكِينِ يوم الْعِيدِ وَمُوَاسَاتُهُمْ من جِنْسِ ما يَقْتَاتُهُ أَهْلُ بَلَدِهِمْ" (إعلام الموقعين، 3: 12).

دفعها نقداً (إخراج القيمة):

قال النووي: "مذهبنا أنه لا يجوز إخراج القيمة في شيء من الزكوات وبه قال مالك وأحمد وداود ... وقال أبو حنيفة يجوز" (المجموع، 5: 384). قال ابن قدامة: "ومن أعطى القيمة لم تجزئه قال أبو داود قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم؟ يعني في صدقة الفطر، قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم" (المغني، 2: 357).

وقال ابن تيمية: و"أما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنَّه لا يجوز وعند أبي حنيفة يجوز، وأحمد رحمه الله قد منع القيمة في مواضع وجوزها في مواضع فمن أصحابه من أقر النص ومنهم من جعلها على روايتين، والأظهر في هذا أنَّ إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه" (مجموع الفتاوى، 25: 82). ولا شك أنَّ القائلين بالقيمة لا يخرجون عن المصلحة التي عللوا بها اختيارهم كما يتضح من كلام الحنفية.

أما الحنفية فقد أجازوا إخراج القيمة تحريراً لمقصد الإغناء التماساً لمصلحة الفقراء، قال الكاساني: "وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَنْصُوصِ عليه من حَيْثُ أنه مَالٌ مُتَقَوِّمٌ على الْإِطْلَاقِ لَا من حَيْثُ أنه عَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ عن جَمِيعِ ذلك الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو فُلُوسًا أو عُرُوضًا أو ما شَاءَ وَهَذَا عِنْدَنَا ...

وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ في الْحَقِيقَةِ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أغنوهم عن الْمَسْأَلَةِ في مِثْلِ هذا الْيَوْمِ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ بَلْ أَتَمَّ وَأَوْفَرَ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْإِغْنَاءِ" (بدائع الصنائع، 2: 73)، ولهذا يرجع الحنفية ومن يأخذ بقولهم إلى أسعار السوق لغالب قوت البلد عند تقدير زكاة الفطر كل عام.

والحق أنَّ أحكام الإنفاق كلها معلولة بمصلحة المستفيد وإلا كانت سفهاً، ولا يخفى تفضيل الفقير للنقد على الطعام؛ فالنقود تعطيه القدرة على اختيار ما يريد من السوق بخلاف الطعام الذي قد لا يكون راغباً فيه فيتكلف عندئذ عناء قبضه ونقله وبيعه للحصول على ثمنه فلا تتحقق مع ذلك مصلحته، ومن هنا نعلم أنَّ من يقول بالقيمة لا يستطيل بالاستحسان على الحكم (النص)؛ إنما هو يحرر مناطه بتحريز المصلحة وإقامة المقصد، وقد أقر الجمهور جواز إخراجها من غالب قوت البلد ولو لم يكن من الأصناف التي ورد ذكرها في أحاديث الفطرة، وعليه فالراجح والله أعلم هو إخراج القيمة (الوجيز في اقتصاديات الزكاة والوقف، ص128-133).

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

...

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com
متصفح المقالات