حوكمة الوكز السلوكي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، وبعد؛ يقصد بالوكز السلوكي: استدراج خيارات المستهدَف وقراراته لتكون في المسار الذي يريده المستهدِف. والوكز السلوكي ليس أمراً طارئاً على الاجتماع الإنساني، ومقطوعة الشاعر (مسكين الدارمي) في المليحة وخمارها الأسود ليست غريبة على أدب العوائد الاستهلاكية ولا غريبة عن أدب التجارة، والمقطوعة وقصتها تقدم أوضح وأجمل تصوير لما نحن بصدده. وأنا بدوري سأمارس وكزاً سلوكياً على فضول القارئ الذي لا يعرف تلك المقطوعة وقصتها ليتلمس سبيله إليها.

جديد الوكز السلوكي:

وإذاً؛ فبغض النظر عن حداثة شيوع المصطلح إلا أن العمل بمضمونه مشهور ظاهر؛ فالتاجر والمنتج والممول من قبل ومن بعد كلهم يتذرع إلى أهدافه بالوكز أو الاستدراج السلوكي. وربما كان جديد الوكز السلوكي يتمثل في أمرين: أولهما توظيف معطيات العلوم السلوكية: علم النفس وعلم الاجتماع وحتى علم الأعصاب لتحقيق مقاصد الوكز السلوكي. وثانيهما أن الإدارات العامة المعاصرة أدركت أهمية الوسائل المبنية على معطيات الاقتصاد السلوكي بديلاً للوسائل الآمرية أو رديفاً لها فراحت تكثف اعتمادها لتحقيق أهدافها ولتمرير سياساتها خاصة مع العولمة التي قدمت صورة باهتة لدور السلطة التنفيذية في الحياة الاقتصادية.

قل لي من الواكز ، أقل لك ماذا يريد:

قد يعطي البعض انطباعاً بأن مطلق الوكز السلوكي يصحح تصرفات الناس السلبية ويعزز الرفاهية الاجتماعية وهو أمر لا يسلم على إطلاقه البتة؛ إنما يطلب أن نميز بين أنواع الوكز السلوكي بحسب الجهة التي تمارسه والتي يعبر وكزها عن مصلحتها بلا أدنى شك؛ فالمنتج والتاجر يستهدف تسويق المنتجات وتكثير المبيعات وكسب ولاء المستهلك للسلعة أو للمتجر، والممول يهدف إلى ترويج تمويله وخدماته وكسب ولاء المتمولين له وتيسير استئداء مستحقاته منهم. إن أي نظرية تقول غير ذلك لا تعبر عن الواقع أبداً، ولذلك ليس من الصحيح في شيء أن نعتبر الوكز السلوكي خيراً محضاً وأنه بالمجمل يستهدف مصلحة المستهدَفين وتصحيح خياراتهم.

تصادم الوكز السلوكي:

الأمهات والأطباء والمؤسسات الصحية والتربوية كل أولئك يمارس وكزاً سلوكياً على الطفل بهدف ترشيد سلوكه الاستهلاكي واستدراجه إلى نمط غذائي يحقق بناء جسمه سليماً ويؤمن استدامة عافيته؛ لكن ذلك يقابله وكز آخر يهدف إلى استدراج الطفل إلى ما يحقق مصالح المستهدِفين (الباعة/ المنتجين) بدءاً من موسيقى البائع المتجول إلى الفلاشات الدعائية لمنتجي الرقائق ومجهزي الوجبات السريعة والمشروبات الغازية... إلخ.

صُنَّاع الدخان وصُنَّاع المخدرات وصُنَّاع الألعاب الإلكترونية ونظائرهم؛ كل أولئك يمارس وكزاً سلوكياً على الشباب يزين لهم استهلاك منتجاتهم ويجتهد في تأسيس ولاء نفسي لتلك المنتجات ولاعتياد الشباب عليها وإدمانهم لها، في حين تجتهد الأسرة والمؤسسة الصحية والمؤسسة التربوية والمؤسسة الأمنية وجمعيات حماية المستهلك في تحصينه من كل ذلك.

الإعلام والإعلام المضاد والإعلام المنافس؛ كل أولئك يمارس وكزاً سلوكياً (نزغاً أو إرشاداً) على الجمهور لإيصال رسالة المُرسِل والتأسيس النفسي لها في ذهنية الفرد والجمهور.

الأحزاب ومرشحوها يمارسون وكزاً سلوكياً على الناخبين لكسب أصواتهم. الدعاية الانتخابية تجتهد في تحقيق هذا الهدف متسربلة بالموضوعية ما أمكنها ذلك، لكنها قد تنتهي بالاتهام والتشكيك والتسقيط. جُل الحملات الانتخابية والدعاية الانتخابية لا تخرج عن هذا السياق؛ والخلاف بينها غالب الأحوال يبدأ قضية اجتهادية تخص البرامج الانتخابية لكنه قد ينتهي قضية أخلاقية واتهامات متبادلة، وأحداث الواقع القريب في الدولة الراعية للديموقراطية ليست ببعيدة عن الجميع!!.

المؤسسات الخيرية تمارس وكزاً سلوكياً لترويج قناعتها ولحشد تمويل الجمهور لأنشطتها. 

إذاً، لا مكسب تلقائي للرفاهية بمجرد الإقرار بأهمية الاقتصاد السلوكي وتعميم ثقافته؛ فالإرشاد والاستدراج السلوكي الإيجابي يقابله نزغ واستدراج سلوكي سلبي، ودائماً أبداً كانت النفس والشيطان في معسكر واحد، ولذلك كانت الوصية التزكوية: وخالف النفس والشيطان واعصهما،،، وإن هما محضاك النصح فاتهم!!.

إذاً، ما تمس الحاجة إليه ليس ترويج الوكز السلوكي؛ إنما هو حوكمة هذا الوكز والتدخل الرشيد الذي يحمي المجتمع من النزغ والاستدراج المتوالي الذي يُسلَط على مخ الإنسان ونفسه ومشيمته الاجتماعية ليتمكن بعد كل ذلك من النفوذ إلى جيبه!!.

الإدارات العامة والوكز السلوكي:

ما تريده الإدارات العامة على امتداد التاريخ هو جمهور طيِّع ينهض بالتزاماته (التجنيد، الضريبة) بلا تلكؤ أو تأخير، وما تريده الإدارات العامة اليوم لا يبعد عن هذا، وتريد منه أهدافاً تفصيلية أخرى للوزارات والإدارات المختلفة؛ فوزارات التربية والتعليم تريد من منتسبيها شيئاً وتريد من طلابها شيئاً، ووزارة الصحة تريد من منتسبيها شيئاً وتريد من الجمهور شيئاً، وهكذا حال كل الوزارات وكل الإدارات.

لقد كانت الوسائل الإدارية والإلزام القسري هي أدوات السلطة التنفيذية لتحقيق أهدافها ولكن الجديد في الأمر هو اقتناع هذه السلطات بأن تعزيز الوسائل الإدارية بمعطيات الوكز السلوكي يتيح لها أن تعلق السوط على الحائط وتتبادل مع الجمهور وممثليهم أحاديث السُّمار بودية!!. ولعل تاريخ الإدارة الاقتصادية في الدولة السوفيتية وتطوره يوضح تقلُّب هذه الإدارة بين الوسائل الآمرية والحوافز الأدبية قبل أن تستقر عند الحوافز المادية: الحوافز الهابطة أيديولوجياً الفاعلة عملياً!!.

والحق أن الوكز السلوكي في الإدارة العامة ليس جديداً على النحو الذي يجيز ربطه بـ(ثالر) أو بغيره كما توحي كثير من الأدبيات المعاصرة؛ فلقد كان الواكز السلوكي (حكيماً، شاعراً، واعظاً، مشيراً، وزيراً) حاضراً في كل بلاط يُسهِّل على السلطان مهام إدارته وقد يغنيه عن صولجانه!!.

والمذهب الاقتصادي الإسلامي مذهب سلوكي:

المذهب الاقتصادي الإسلامي مذهب سلوكي معياري يجاري أفعل التفضيل ويجتهد في حمل المؤمنين به على الخيار الأرشد، ... للتي هي أقوم؛ واستهداء المسلم يتكرر في كل صلاة، ولا يقول أحد إن المجتمع المسلم مجتمع مثالي؛ فالإسلام دين واقعي وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون لكن ذلك لا يعني تحللهم من الاجتهاد واستنفاد الوسع في التسديد والمقاربة. الحديث عن عدم اكتمال الرشد لا يعني التوقف عن السعي لبلوغه. والخلاصة أن كل المذهب الاقتصادي في الإسلام هو تدخل سلوكي إيجابي ومحايد ومبرأ من النسبية الإدراكية لأنه من لدن من له العلم المطلق، وهو مبرأ من الانحياز لأنه من لدن الحكم العدل، وبالجملة هو مبرأ من التحيزات المعرفية والعاطفية كلها لأنه من لدن من له الأسماء الحسنى والصفات الكملى. ويزاد على تدخل المذهب هذا، ما تمس الحاجة إليه من تدخل تقدره السياسة الشرعية بأدواتها السلوكية والحكمية.

الحكم التكليفي والوكز السلوكي:

الحكم بيان يفصح عن مقتضى أمر الشارع في تصرفات البشر وسلوكاتهم، ونحن لا نسمي هذا وكزاً بالمعنى المتقدم إنما هي أحكام والعلم بها هو علم فقه؛ علم دليل وعلة وليس علم نفس واجتماع، لكن التشريع الإسلامي جملة لا يقدم مفرداته باردة هامدة كما تفعل التشريعات الوضعية؛ إنما يقدمها ضمن هالة من الشحنات النفسية والعاطفية التي تمهد للمكلف تقبله للحكم وتمثل حمى نفسياً وسلوكياً يعين على تنفيذه؛ فالربا حكمه الحرمة لكن التشريع الإسلامي لم يكتف بهذا البيان مجرداً؛ إنما أحاط الحكم بسحابة نفسية كثيفة تؤسس لتبشيعه عند المكلف عبر: صورة المرابي الذي لا يقوى على النهوض لكبر بطنه ... الذي يتخبط كالمجنون ... الذي يسبح في بحر من دم ... وصور أخرى أكثر تبشيعاً ...، هذه السحابة النفسية هي الوكز السلوكي وليس الحكم المباشر الصريح...، ومثال ذلك أيضاً في الجانب الإيجابي السحابة النفسية التي تحيط بالأمر بالإنفاق والتي تصنعها صورة الحبة التي أنبتت سبع سنابل ... وصورة الفَلُوّ الذي ينمَّى لصاحبه ... وصورة المراباة المندوبة مع الله: من الذي يقرض الله  ... هذا ونظائره كثير، وكله يمثل تفعيلاً لكوامن النفس الإنسانية بما يعزز فعل المشروعات ويثبط عن فعل المناهي ويحجز عن الممنوعات.

في سلوكيات ما وراء الاقتصاد:

يشدد السلوكيون في نقد فرضية الرشد ليسوغوا الوكز وقوامتهم عليه، وهذا منطق لا يصح إلا جزئياً؛ فكما تقدم القول؛ لا يُحرَر موقف من مطلق الوكز إنما الأمر يعتمد على الواكز ومقاصده، ويبدو أن المناخ الفكري المتقدم هو الذي ألهم بعض المعنيين بالاقتصاد الإسلامي دعوتهم إلى التحول من "فرضية الإنسان المسلم" التي قابلوا بها "فرضية الإنسان الرشيد" إلى فرضية "الإنسان العادي"، والحق أن الناظر في الطرح النظري حول هذه المسألة يجد فيه تداخلاً وربما توهماً بين الرشد وفرضية الرشد من جهة وفرضية السعي إلى التعظيم من جهة ثانية وفرضية الإنسان الاقتصادي النفعي من جهة ثالثة، وهو ما قد يلزم له حديث مفرد. أما الآن فنريد أن نختم هذه السطور بتعميم القول إن الانحراف عن السلوك القويم إما أن يكون لقصور معرفي أو معلوماتي وهذا أمره يسير ويستدرك بالتعليم، وقد يكون هذا الانحراف لمتعة أو شهوة قريبة تفوت على صاحبها ما هو أكبر منها، وهذا يستدرك بالتذكير والإرشاد، لكن ما هو أخطر من كل ذلك على الفرد وعلى البناء الاجتماعي هو التحيزات الذاتية ومن صورها الممثلة: أنا الإبليسية: أنا خير منه، ولي الفرعونية: أليس لي ملك مصر، وعندي القارونية: إنما أوتيته على علم عندي، فهذا يستوجب تصحيح الاعتقاد زيادة على التزام مسالك التزكية والتحرز من مزالق التدسية. هذا وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

...

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com
متصفح الكتب