بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: كان ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة من بين مَنْ بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإسلام، لكنه أعرض عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من أشد المناوئين للإسلام حتى أنه قتل بعض المسلمين واعتزم قتل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد شاءت حكمة الله تعالى أن يقع ثمامة في أسر سرية من سرايا المسلمين فقدموا به المدينة وهم لا يعرفونه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوقاً في المسجد قال: "أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ" (سيرة ابن هشام).
وأتاحت له واقعة الأسر هذه فرصة التعرف على الإسلام عن قرب فسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه بعد أن كان يسمع عنه وعنهم،،، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستظهر سريرة ثمامة ويعرِّض له بالدعوة فقال له بعد مدة من الأسر والمعايشة: "ما كان عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي يا محمد خير، فإن تقتل تقتل ذا دم (مؤاخذ بدم المسلمين الذين قتلهم)، وإن تُنعم عليَّ بالعفو، تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال (فدية) فسَلْ تُعط منه ما شئت" (صحيح مسلم).
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يريد شيئاً غير ما ذكر ثمامة؛ كان يطمع في هدايته؛ فأمر بإطلاق سراحه!!.
وسرت مفاعيل الدرس النبوي في نفس الرجل، فإن يكن الوثاق المادي قد فارق جسده فقد استمكن من قلبه وثاق آخر هو حب النبي صلى الله عليه وسلم وحب دعوته؛ فلم يمض ثمامة إلى أهله إنما ذهب إلى نخل قريب فاغتسل وعاد إلى المسجد بعزة المؤمن؛ فتشهد وأعلن إسلامه، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج للعمرة؛ فكان رضي الله عنه أول معتمر في الإسلام.
ودخل ثمامة بن أثال مكة صادحاً بالتلبية الخالصة المخلَّصة من شرك الجاهلية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمـد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ولما سمعه المشركون هرعوا إليه فلم يزل يكررها على مسامعهم؛ فهمَّ أحدهم أن يرميه بسهمٍ، فأخذوا على يديه، وقالوا: ويحك أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال، ملك اليمامة، ووالله إن أصبتموه بسوءٍ قطع قومه عنكم الميرة، ومُتُّم جوعاً، ثم أقبل القوم على ثمامة، يداهنونه ويراودونه عن دينه فقالوا: ما بك يا ثمامة، أصَبَوْتَ؟! قال: "لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مع مُحَمَّدٍ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا والله لَا يَأْتِيكُمْ من الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتى يَأْذَنَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم" (صحيح البخاري)، وذكر عبد الرزاق أنه أجاب المشركين متوعداً: "لا أدري ما تقولون إلا إني أقسمت بربِّ هذه البَنِيَّة (مشيراً إلى الكعبة) لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم".
ولما عاد ثمامة إلى اليمامة برَّ بقسمه فأمر قومه أن يحبسوا الميرة عن قريش، ففشا الجوع في مكة، واشتد الكرب بأهلها؛ فكتبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يناشدونه الرحم ويشكون إليه: إن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا؛ فإن رأيت أن تكتب إليه (برفع الحصار عنا)، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة رضي الله عنه أنْ: "خلِّ بين قومي وبين ميرتهم ففعل" (روح المعاني).
والمستفاد من هذا دروس منها:
1. أن المعرفة عن قرب تعين على اختراق التضليل الإعلامي، ونجد ترجمة ذلك في شعار: (اسمع منا ولا تسمع عنا). والإسلام حريص على هذا المقصد كما أوضح القرآن الكريم: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ" (التوبة/ 6) وقد أثمرت تجربة ثمامة رضي الله عنه في الأسر معرفة بحقيقة الإسلام وواقعه.
2. أن المسلم يعرف ما يقتضيه الإسلام منه من ولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وبراء ممن عادى الله ورسوله والمؤمنين، وقد جسد سيدنا ثمامة هذه الحقيقة بوضوح.
3. أن المسلم يعرف إمكاناته وقدراته التي يمكن تسخيرها في نصرة دينه؛ وقد استغل ثمامة مركزه في قومه وإمكاناته لصالح الدعوة الإسلامية ودولتها.
4. أن الحصار الاقتصادي كان واحداً من أفعل الأسلحة مع المشركين؛ اضطرهم إلى مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يأمر برفع الحصار عنهم.
5. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر وأنبل من أن يعامل المشركين بالمثل وهم الذين حاصروه وأتباعه في شعب أبي طالب، لكنه وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة أمر ثمامة أن يطلق لهم الميرة؛ فقد يكون فيهم المؤمن وفيهم الصغير وفيهم المستضعف ولا إمكانية لأن يتزيل هؤلاء من قومهم فالحصار يؤذيهم، والإسلام يراعي التحرز عن عموم الضرر: "... لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (الفتح/ 25).
6. أن الحصار الاقتصادي يعم الناس المسالمين وقد يكون له أثر في توحدهم مع مجتمع الشرك وتحولهم إلى محاربين معاندين، وبرفع الحصار عنهم قد ينخرم ولاؤهم لمجتمع الشرك وتنفرط عصبيتهم له، وتفريق صفوف المشركين سياسة شرعية معتبرة وقد لاحظنا أن سيدنا نعيم بن مسعود رضي الله عنه وبتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم قد لعب دوراً فاعلاً في تخذيل الأحزاب وتفريق كلمتهم.
هذا والله أعلى وأعلم وأحكم، وسبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
...
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com