ليبرا فيسبوك: العملة الافتراضية التي لم تر النور

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد؛ العملات الافتراضية هي: تمثيلات مزعومة للقيمة تُؤشَّر بوحدات رمزية مختلَقَة تحمل اسم كل نوع منها. وفي تأكيد هذا التوصيف قال عنها البنك الدولي: "العملات الرقمية هي تمثيلات رقمية للقيمة معرَّفة بوحدة حساب ذاتية خاصة بها ... والعملات المشفَّرة هي مجموعة فرعية منها تعتمد على تقنيات التشفير لتحقيق الإجماع مثالها: البتكوين والإيثر". وقال البنك المركزي الأوربي: إنها "نوع من النقود غير المنظمة يصدرها ويتحكم فيها مطوروها، ويتم التعامل بها من قبل مجتمع افتراضي محدد". ويجري التعامل بين أعضاء هذا المجتمع وفق ما ينعتونه بنظام الند للند بعيداً عن وساطة المصارف التجارية وقوامة البنوك المركزية، وأهم ما يميز هذا النظام البديل (https://2u.pw/bH8knxjo) هو الآتي:

  1. الاستعاضة عن قوانين البنوك المركزية بالبروتوكولات التأسيسية للعملات المشفرة.
  2. الاستعاضة عن وحدات النقد القانونية بوحدة النقد المشفرة.
  3. الاستعاضة عن المصارف التجارية المحلية والمصارف المراسلة بالشبكات والمنصات الخاصة بالعملات المشفرة.
  4. الاستعاضة عن سجلات المصارف التجارية وإدارتها الخاصة بسجلات البلوكتشين وإدارتها الشعبية.
  5. الاستعاضة عن الحساب المصرفي بالمحفظة الرقمية التي تدخلها وتخرج منها العملات المشفرة كتسوية حقوقية للمعاملات البينية دون الحاجة إلى وساطة البنوك التجارية وخدماتها.
  6. الاستعاضة عن الحيز النقدي الوطني والرابطة الوطنية بين أفراد البلد الواحد بحيز الأصول النقدية المشفرة المتعدية للحدود السياسية.

هكذا تتحقق اللامركزية والتسيير الذاتي لنظام العملات المشفرة في حدود بروتوكولاتها التأسيسية على الأقل نظرياً. ويزعم أنصار العملات الافتراضية أنها تحقق للعالم الاستقرار النقدي الذي عجز عنه النظام النقدي الرسمي لكنهم لم يقدموا سنداً نظرياً أو عملياً يؤيد دعواهم، وهم لا يقولون شيئاً بصدد المنافسة فيما بينها، ولم يدَّع أي منهم وجود اليد الخفية التي ستنسق فوضى الإصدارات الافتراضية التي بلغت الألوف المؤلفة لتحقق الاستقرار النقدي والكفاءة الموعودة!!.

مشروع ليبرا عملة فيسبوك الافتراضية

ومع المكاسب الفلكية التي حققتها العملات الافتراضية في الأسواق المالية خاصة البتكوين، ظهرت في الشهر الخامس من عام 2018م تقارير تفيد اعتزام إدارة فيسبوك إطلاق عملة افتراضية تعتمد أيضاً تقنية البلوكتشين سمتها في حينها (Global Coin)، ثم استقر الرأي تالياً على تسمية الوليدة المنتظرة (Libra)، وعلى خلاف عملية تعدين البتكوين قررت إدارة مشروع الليبرا أن توفر على المعدنين جهدهم وتتيح للراغبين ملء محافظهم (CaLibra) بوحدات النقد الجديد عن طريق الشراء من نقاط التوزيع التي تبثها على الشبكة العنكبوتية. وقد استعاضت إدارة (ليبرا) أيضاً عن جماهيرية التعدين في (البتكوين) بجماهيرية الإصدار فحشدت لمشروعها كبريات الشركات المعنية بتقنيات التمويل والمعلوماتية!!.

لكن يبدو أن الموقف الرسمي المتشدد تجاه مشروع (ليبرا) الفيسبوك دفع مصمميها مراراً إلى مراجعة جداولهم الزمنية والإعلان عن التمهل في إصدارها، كما دفعهم إلى تعديل تصورهم بشأن ماهيتها؛ فبعد أن كان الحديث عن نقود افتراضية خالصة جرى الحديث عن ربط هذه العملة بعملات رسمية قيادية وأصول حقيقية فيما صار يروج له على أنها عملة مستقرة Stable coin، وفي أواخر عام 2020م جرى التحول عن ليبرا إلى اسم جديد هو ديم Diem، وعن اعتزام ربطها بالدولار.

وفي تقديري أن هذه التعديلات المتوالية على المشروع لم تكن سوى محاولات لاحتواء ردود فعل العالم الرسمي ومغازلة أقطاب القوة فيه، لكنها لم تفلح فيما يبدو في إنقاذ مشروع العملة الجديدة؛ وتبخرت آمال جمعية ديم إزاء حزم القيود التنظيمية؛ فاندفعت في بداية عام 2022م لتصفية المشروع وبيع أصوله.

مفارقات بين البتكوين والليبرا:

والذي يبدو لي أن مصمم (الليبرا) لم يحسن استلهام تجربة (البتكوين) من وجوه أصابت مشروعه في مقتل وأفضت إلى إخفاقه، وإليك إيضاح ذلك:

  1. إن مصمم البتكوين اعتمد ستراتيجية استباقية ذكية إذْ طمأن العالم الرسمي ابتداء على محدودية إصداره: (21) مليون وحدة، يُقنَن تعدينها حتى 2140م؛ وبالتالي فلا خطورة من إصدار محدد من حيث الكم ومقنن على مدة طويلة من الزمن، أما مصمم (الليبرا) فقد اعتزم أن يطرح عملة تكفي لأن تؤمن السيولة للاقتصاد الظاهر وللاقتصاد الخفي معاً، وهو ما لم يكن باستطاعة النظام الرسمي تقبله والسكوت عنه!!.
  2. إن مصمم (الليبرا) حشد لها كبريات شركات "المعلومالية"، وهذا مقتل آخر؛ فإدارة فيسبوك وهذه الشركات معروفة للعالم الرسمي، ويمكن متابعتها ومواجهتها بسهولة على خلاف (أشباح ساتوشي) اللائذين بتلافيف عالمهم الافتراضي فلا تُعرف لهم هوية ولا يُدرى إن كانوا من صعاليك التكنولوجيا المغامرين أم من أمراء الاقتصاد الأسود؛ وهم أصلاً لم يطرقوا باب النظام الرسمي ولم يطلبوا الإذن منه!!.

ولا ننسى في هذا السياق فارق التوقيت؛ فقد ظهرت البتكوين بعد الأزمة المالية 2008م، والعالم الرسمي مشتت الذهن واهن القوى لما أصابه من وقعها، أما مشروع الفيسبوك فقد جاء في وقت تمالك فيه العالم الرسمي نفسه واستعاد شيئاً من وعيه إزاء خطورة الإصدارات الرقمية المتكاثرة. هذا، و"سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين".

...

عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com

 

متصفح المقالات