بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد؛ فقد وردت للمخاطرة معان عديدة، ارتبطت بها أحكام شرعية مختلفة؛ فطوراً يكون وجودها قادحاً في مشروعية المعاملات، وآخر يكون غيابها سبباً في عدم المشروعية تلك، ولأن المسألة كذلك، ولأننا نشخص خلطاً خطيراً في معاني المخاطرة ينسحب على حكم النشاط الذي يرتبط بها، لذا أرى لزاماً ان نحرر معاني المخاطرة بوضوح يرفع اللبس والتشويش ويؤصِّل لقول فصل في أحكام المعاملات، وهنا يمكننا أن نرصد المعاني التالية:
1. الغرر أو عدم التأكد الذي يكتنف محل العقد: قال الإمام الشافعي في سياق رفضه للوعد الملزم: "وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما (البائع والمشتري) الأمر الأول (إنفاذ البيع) فهو مفسوخ من قبل شيئين (لسببين): أحدهما أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع، والثاني أنه على مخاطرة (غرر) إنك إن اشتريته على كذا (سعر مجهول) أربحك فيه كذا" (الشافعي، الأم، ج3، بيع العروض، ص48).
والغرر على ضروب منها: غرر الوجود، وفيه يتطرق الاحتمال بالوجود أو العدم إلى محل العقد، ومثل ذلك الغرر: بيع المضامين وبيع الملاقيح وبيع السنين وحبل الحبلة. أما الضرب الثاني فهو غرر الحدود أو الصفات، وفيه يتطرق الاحتمال إلى القدر أو الصفة المعتبرة في المعقود عليهما عند التعاقد، ومثل ذلك الغرر: بيع الثنية وبيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع الصوف على الحيوان. أما الضرب الثالث من الغرر فيتطرق فيه الاحتمال لا إلى وجود محل العقد أو صفته إنما إلى إمكانية تسلمه وقبضه، ومثال هذا الغرر بيع السمك في الماء والطير في الهواء وبيع الحيوان الشارد.
وواضح مما تقدم أن المقصود بالمخاطرة هنا - الغرر - علة معرفية تقدح بالعقود التي ينبغي أن ترسى على أساس من المعرفة التامة؛ فهذه المعرفة هي شرط الرضا الذي هو ركن العقود، ولذلك فهذه المخاطرة تطيح بمشروعية العقد الذي تخالطه، وهو ما أكدته الأحاديث الشريفة الواردة في هذا الباب.
2. المقامرة أو المجازفة التي ترسي العقد بين المتعاملين على الاحتمال المجرد، كما هو حال لعب الميسر والنرد والرهان على الخيل أو الرهان على المؤشر وكل أشكال ما يعرف اليوم باليانصيب، فكل ذلك ينطوي على غرر وجهالة، لكن هذا الغرر وهذه الجهالة هي بذاتها محل العقد بخلاف المعنى الأول الذي تقدم، وفيه يكون محل العقد صحيحاً من حيث الأصل لكن الجهالة تفسده أو تبطله، أما هنا فمحل العقد هو محض الغرر الذي يتقاسمه العاقدان، وقد اثبت القرءان الكريم وجوب اجتناب الميسر مع ما قد يبدو فيه من نفع لأن إثمه أكبر من نفعه.
3. التعرض للخطر والإشراف على الهلاك بسببه، وهذا هو المعنى اللغوي للمخاطرة: ابن منظور، لسان العرب، مادة خطر/ الرازي، مختار الصحاح، مادة (خ ط ر)، والتعرض للخطر واحتمال الهلاك بسببه قد يكون تهوراً وطيشاً وبذلك يكون محرماً لأنه لا غاية تبرره، وقد يكون شجاعة وبسالة والتزاماً شرعياً يرتفع به قدر الإنسان عند الله تعالى وعند خلقه، حينما تكون هذه المخاطرة دفاعاً وفداءً، مع أن النتيجة قد تكون في الحالتين واحدة وهي هلاك المخاطر.
4. احتمال التعرض لواقعة معينة تم توصيفها عقدياً (عقد التأمين) على أنها خطر يوجب التعويض، وهذا هو معنى الخطر في التأمين والتشريعات الناظمة له. والذي عليه الفتوى أن وجود هذا الغرر في المعاوضات يبطلها، وبذلك جاءت قرارات المجامع الفقهية بصدد التأمين التجاري.
5. القدر العلي الرفيع، وهو معنى لغوي، وفيه قال القرطبي: "التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة... وهي نوعان: تقلب في الحضر من غير ثقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار وقد رغب عنه أولوا الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار - فالخطر هنا يعني القدر الرفيع والهمة العالية - والثاني تقليب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة، وأعم جدوى، غير أنه أكثر خطراً - احتمالاً للخسران - وأعظم غرراً - أي أكثر جهالة وستراً للعواقب" (القرطبي، الجامع لأحكام القرءان، ج5، تفسير الآية 29 من سورة النساء)، والجمل الاعتراضية ليست من أصل النص.
6. مدى انحراف التدفقات النقدية الفعلية عن التدفقات النقدية المقدرة في مشروع استثماري معين. وهذا هو المعنى الشائع في دراسات الجدوى وتقويم الاستثمار.
7. الاستعداد الإيجابي لتحمل نتائج النشاط الاقتصادي ربحاً أو خسارة، وهذا هو مقصودنا وهو المعنى الإيجابي الذي تعلقت بوجوده صحة المعاملات فالمخاطرة هنا هي التي تؤهل المستثمر للربح كما تقضي القاعدة: "الخراج بالضمان" أو "الغنم بالغرم"، مصداقاً لنهيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن. وفي ذلك يقول ابن القيم مفرقاً بين المخاطرة الإيجابية والمخاطرة السلبية: "المخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجار، وهو أن يشتري السلعة بقصد بيعها ويربح ويتوكل على الله - ففي هذه المخاطرة صلاح للتاجر وللمنتج وللمستهلك، ولذلك فهي مخاطرة مبررة ومرغوبة اجتماعياً رغم الغرر الذي فيها ورغم الجهالة التي تكتنف نتائجها، وهي التي تؤهل باذلها للارتباح، أما المخاطرة السلبية فهي لا تديم منفعة ناجزة ولا تنتج منفعة جديدة ولا تنقل المال بين الناس على أسس مشروعة، وفيها يقول ابن القيم: والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل، فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله" (زاد المعاد، ج5، طبعة الحلبي، ص816). وما قاله ابن القيم قاله ابن مفلح: "أما مخاطرة التجارة فيشتري السلعة بقصد أن يبيعها بربح، ويتوكل على الله في ذلك، فهذا الذي أحله الله" (الفروع، ج 4، ص18).
ونخلص من كل ما تقدم إلى الآتي:
هناك اختلاف أكيد في معنى المخاطرة.
وهناك اختلاف في اتجاه المخاطرة والمقصد الذي يستهدف منها.
وكلا الأمرين السابقين له دَخَل في الحكم على مشروعية النشاط الذي تكتنفه المخاطرة؛ ففي القمار مخاطرة وفي التجارة والاستثمار مخاطرة أيضاً، لكن مخاطرة القمار تجعله منشطاً محرماً لأنه لا نفع فيه لأحد إلا على حساب الآخرين دون وجه حق - هذا زيادة على ما تقدم حول محل العقد في هذه المعاملة - بينما مخاطرة التجارة والاستثمار مخاطرة ممتدحة ومشروعة لأنها تنشر الخير وتقوم على العدل وتؤول إلى صلاح للجميع.
ومما تقدم ندرك جسامة الخطأ الذي وقع فيه كثيرون عندما دعوا إلى وأد المخاطرة بالمعنى الإيجابي المتقدم أو تحجيمها أو ترحيلها إلى الغير بذريعة حفظ المال باعتباره مقصداً شرعياً، ومن هنا جاء التنظير لمشروعية الوعد الملزم في بيوع المواصفة ولمشروعية التأمين التجاري ولمشروعية بيوع الخيارات والمستقبليات كأساليب لإدارة المخاطر المصرفية والاستثمارية، وهو تنظير في غاية العقم والخطورة.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com