بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: إن بيان الموقف من تجارة العملات بنظام الهامش يقتضي الحديث أولاً في موضوع الاتّجار بالعملات مطلقاً، ثم الحديث عن تطبيقات نظام الهامش في هذه التجارة ثانياً، وأخيراً بيان الحكم التقديري على ضوء ما تقدم، وإليك التفصيل:
تجارة العملات الأجنبية:
الاتِّجار بالعملات الأجنبية يعني اتخاذها مبيعاً مثل بقية السلع والعروض، وتقليدياً فإن العقد الذي يحكم هذه التجارة يسمى عقد الصرف Exchange، والصرف شرعاً هو: بيع عوضاه من جنس الأثمان (النقود)، وقد ضبطت السنّة الشريفة الصحيحة هذا العقد بشرطين:
الأول: التماثل قدراً عند اتحاد الجنس أي جنس النقد محل المبادلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "... مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا على بَعْضٍ ...".
الثاني: التقابض فوراً لكلا البدلين بلا فاصل زمني لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تبيعوا غائباً منها بناجز"، وفي حديث آخر: "... يداً بيد"، وفي آخر: "هاء وهاء ..."، ويسري هذا الشرط عند اتحاد الجنس وعند اختلافه.
وتعلية على ما تقدم لا يجوز في الصرف خيار ولا أجل، ومنه نفهم أن أحكام الصرف قيّدت هذه المعاملة ولم تجز لها إلا احتمالاً واحداً من أربعة احتمالات ممكنة؛ فالمتصور عقلاً أن تتم:
1- مبادلة عملة حاضرة بعملة أخرى حاضرة.
2- مبادلة عملة حاضرة بعملة مؤجلة.
3- مبادلة عملة مؤجلة بعملة حاضرة.
4- مبادلة عملة مؤجلة بعملة مؤجلة.
ولا يصح شرعاً من هذه الاحتمالات إلا الاحتمال الأول.
وبقي أن نشير هنا أن الفقهاء قد أدركوا خصوصية هذا العقد وخصوصية محله: الأثمان (النقود)؛ فالنقود عندهم أداة للتبادل: (صاع لكيل القيم) وليست موضوعاً له في الأصل، وإنما جازت مصارفتها لضرورة إتمام البيع المطلق ومقاصده من حيث تسهيل تملُّك الأعيان والمنافع وتمليكها؛ فهذه الأعيان والمنافع هي التي تشبع الحاجات وهي المقصودة من التبايع، وهذه المقصودات يتوسل إليها بالنقود، وبالتالي فلا ينبغي أن تنزل الوسيلة (النقود) منزلة الغاية والمقصود، وقد تعاضدت آراء الفقهاء مؤكدة هذه النظرة الأداتية تجاه النقود، يقول ابن رشد، في بداية المجتهد، ج1، ص231: "المقصود منهما (الذهب والفضة) أولاً المعاملة لا الانتفاع"، بخلاف العروض التي يقصد منها الانتفاع أولاً لا المعاملة.
وجاء في حاشية ابن عابدين، ج4، ص 501: "الثمن غير مقصود بل وسيلة إلى المقصود، إذ الانتفاع بالأعيان (السلع) لا بالأثمان... فبهذا صار الثمن بمنزلة آلات الصناع".
ويؤكد ابن تيمية في مجموع الفتاوى، م19، ص251، المعنى ذاته ناعتاً النقود بـالوسيلة المحضة: "... هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانًا".
وبناء على ما تقدم من أحكام خاصة بالنقود وفهمٍ مميز لطبيعتها، كان الصرف عقداً تكميلياً وتبعياً؛ فالتجارة الخارجية تستلزم الصرف، والسفر إلى بلد أجنبي له نقد مغاير يستلزم الصرف، لذا كان الصرف مقيداً ومرصداً لهذا الغرض وليس منشطاً أصلياً. ولأجل ما تقدم، نجد ابن القيم يحذِّر من اتخاذ النقود مُتَّجراً لما يقود إليه ذلك من الفساد والخُلف والتظالم؛ فيبين أن الثمنية، وهي معنى معقول مختص بالنقود، تستلزم صيانة هذه النقود عن أن تتخذ متَّجراً، يقول في: إعلام الموقعين، ج2، ص156:
"... فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن (النقد) هو المعيار الذي به يُعْرَف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسِّلَع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سِلَعٌ، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تُقَوَّم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقومُ هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخُلف، ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تُقَوَّم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمْرُ الناس...؛ فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود...".
وما قرره ابن القيم أكده الغزالي أيضاً، جاء في الإحياء، باب الشكر، في سياق تمييز ما يحبه الله عما يكرهه: "... فإذا اتّجر في عينهما (الدينار والدرهم) فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ... فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى (عندئذ) النقد مقيداً عنده وينزل منزلة المكنوز، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم، كما أن حبسه ظلم، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار وهو ظلم"، وإذاً فالمعقول والمنقول من كل ما تقدم يؤكد أنْ:
"لا لتسليع النقود"!!!.
وهذا هو الاختيار الذي يتوافق مع مباني التشريع الإسلامي الذي يميز بين صنوف المال المختلفة، ويخص كلاً منها بأحكام تتناسب مع مقاصد الانتفاع منها. وأعتقد أن هذا الفهم يكفي بمفرده لبيان الموقف من الاتجَّار بالعملات على ضوء مقاصد الشريعة، ولكن سيلي للمسألة مزيد بيان.
المتاجرة بنظام الهامش:
ملاحظة: يمثل كتاب الفوركس للمبتدأين المصدر الرئيس لما يرد في هذه الفقرات، وهو كتاب الكتروني تعليمي يعرِّف بهذه التجارة ويدعو لها، يمكن للباحث أن يجده على هذا الموقع: fx4beginners.com ومواقع أخرى كثيرة على شبكة الانترنت.
يقوم هذا النظام في جوهره على تمكين المُتاجر: المُضارب Speculator الذي لا يملك رأس المال الكافي، من المتاجرة برأس مال يفوق الهامش (مبلغ المال الذي يملكه) أضعافاً مضاعفة، هذا من جهة التمويل. كما يقوم على أساس تحميل المتاجر مسؤولية محدودة في هذه التجارة؛ فخسارته لا تتجاوز الهامش الذي دخل به في التجارة، بل لا تتجاوز نسبة معينة من هذا الهامش، فنحن نتحدث إذاً عن خسارة هامش الهامش!!. أما في حال الربح فالمتاجر يستأثر بالربح كاملاً بعد دفع العمولات وأعباء التمويل الأخرى، وفي هذه الناحية فهذا النظام يشبه (اليانصيب) فمن يشتري الورقة يتأهل نظرياً للحصول على أرباح كبيرة مقابل استعداده لتحمل خسارة لا تتجاوز قيمة الورقة التي اشتراها، هذه قواعد تجارة الهامش التي توافقت عليها شركات الوساطة وصانعو السوق وهم مؤسسات عملاقة تستوفي التحضيرات المؤسسية التي تمكِّن من إنجاز هذه المتاجرة، وذلك بطرح العملات محل الاتجار وجعل تعامل المتاجرين بها ممكناً فنياً وقانونياً، وهذه الجهات ولا شك متعدية للجنسية ومتعدية للسيادة أيضاً!!.
تصوير المعاملة:
يملك المُتاجر: المُصارِف: المُضارب ثلاثة آلاف من الدولارات فقط، بينما يكون الحد الأدنى لرأس المال الذي يمكن أن يشارك بهذه المتاجرة مائة ألف دولاراً، وهي قيمة العقد الاعتيادي، وهذا يعني أنه لن يستطيع برأس ماله أن يشتري العقد النمطي (Lot)، وعندئذ فسيلجأ إلى ممول (بنك أو شركة وساطة) ليقدم له التمويل الكافي لهذه المعاملة، ويلزم عندئذ أن يفتح حساباً لدى شركة الوساطة: الممول الضامن، ويودع فيه المبلغ: ثلاثة آلاف دولار، وهو أصل الهامش الكلي.
إن الممول: شركة الوساطة، سوف تقسم الرصيد (الهامش) بحسب اعتبارات تقدرها هي إلى قسمين:
أ- هامش مستخدم Used Margin
ب- هامش متاح Usable Margin
وليكن الأول ألف دولار والثاني الألفين الباقية، إن الهامش المستخدم (الألف) هو رأس المال الذي سوف تضاعفهُ الشركة لتصل به إلى مائة ألف مثلاً. أما الهامش المتاح (الألفين) فإنه الحد الأقصى لما يتحمله المتاجر من الخسارة في حال حدوثها، وهو بمثابة ضمانة لشركة الوساطة تدرأ بها وصول الخسارة إلى أصل المبلغ الذي تقدمه للمتاجر.
إن المتاجر الذي لديه هامش مستخدم مقداره ألف دولار سوف يكون بإمكانه المتاجرة (شراء عملة أخرى) بقيمة مائة ألف (على فرض أن الرافعة المالية 1: 100 أي نسبة المضاعفة التي تقدمها الشركة لكل دينار في الهامش المستخدم)، وسوف تُيسِّر له الشركة استخدام مرافقها: أمر الدخول إلى السوق وإصدار أمر الشراء عبر الإنترنت ثم بيع الصفقة عند ارتفاع السعر.
وفي حال الربح فسيحتفظ المتاجر بالهامش المتاح والهامش المستخدم وسيضيف إليهما الأرباح التي حصل عليها بعد حسم (خصم) أعباء التمويل والخدمة. وعند معاودة الاتجّار يخضع هذا الرصيد للمبدأ والآلية ذاتها.
أما إذا انخفض سعر العملة المشتراة فيعني هذا أن المتاجر سوف يخسر، لكن خسارته لن تتجاوز في حدها الأقصى الرصيد المتاح (الألفين) ولا تتعداه؛ فشركة الوساطة تمنع هذه الخسارة: تمنع وقوعها لأنها ستدعو المتاجر إلى بيع الصفقة قبل تجاوز خسارته الهامش المتاح، وإلا فسوف تتدخل وتبيع الصفقة جبراً عليه، ونظام الهامش يمكِّن شركة الوساطة من ذلك؛ فالمبيع الذي اشتراه المتاجر (العملة الأجنبية) والذي لم يدفع من قيمته سوى عربون بسيط 1% من قيمته هو ملك الشركة حقيقة، وفي أبعد التكييفات النظرية هو ملك المتاجر لكنه مرهون لدى الشركة.
بقي أن نشير إلى أن المتاجر في الأصل قد لا يملك حتى الهامش الابتدائي (الآلاف الثلاثة)، وعندئذ فسوف يلجأ إلى المسترسلين الذين تستهويهم أرباح هذه التجارة أو أخبار أرباحها، للحصول على التمويل، باعتباره مضارباً (عامل مضاربة يتاجر بأموالهم).
وحتى يكون فهمنا صحيحاً لسلوك المشاركين في هذه التجارة، ينبغي أن نتعرف على الحوافز التي تسيّرهم، وإذا كان حافز الممول المسترسل وحافز المضارب المتاجر وحافز صانع السوق في الحصول على الربح واضحاً ومفهوماً، فما هو حافز شركة الوساطة مقابل التمويل الضخم الذي تقدمه للمتاجر؟؟.
ولِمَ لا تتاجر هي بهذه الأموال وتجني الإرباح لنفسها؟؟!!.
لِمَ لا تضع هذه الأموال في المصارف وتحصِّل فائدتها؟؟!!.
لِمَ تؤثر المتاجر بأرباح هذه التجارة؟؟!!.
إن مكاسب شركات الوساطة المدركة عقلاً يمكن أن تتأتى من الوجوه التالية:
1- فائدة القرض الربوي المحاسبي المقدم للمتاجر في الأصل، ويشير الكتاب التعليمي للفوركس، أن شركات الوساطة لا تأخذ فائدة إذا أنهى المتاجر صفقتيه (الشراء والبيع) في اليوم نفسه، وهو أمر مُشكِل؛ فلِمَ تقدم شركة الوساطة قرضاً مجانياً؟ وإن كان ذلك ممكناً إذا كانت هي المالكة للتمويل فكيف إذا حصلت عليه من المصرف؛ فهل يقدم المصرف التجاري تمويلاً بلا فائدة؟!، والمنطق يقضي بأحد أمرين: إما أن تكون هناك فائدة سواء أكانت هذه الفائدة ظاهرة أم ضمنية، أو أن القرض في الأصل هو قرض وهمي محاسبي فقط.
2- فائدة التبييت أي إرجاء السداد لليلة واحدة، ولا أدري لِمَ وجبت هذه وعفي عن تلك، علماً أن الكتاب سابق الذكر يشير إلى أن بعض شركات الوساطة تسامح عملاءها المسلمين من فائدة التبييت أيضاً وتكتفي منهم بالعمولات؛ بل وتطور الأمر إلى استحداث الحساب الإسلامي للمتاجرة بنظام الهامش!!.
3- عمولة تتقاضاها من المتاجر مقابل التسهيلات المرفقية المقدمة من قبلها، فهي التي تفعّل أهلية المتاجر للتعامل في السوق وتجعل ذلك ممكن فنياً وقانونياً.
4- عمولة يمكن أن تتقاضاها من صانع السوق، ومع إن دليل الفوركس التعليمي يصف سوق العملات بالسوق التامة؛ فلا شك أن هناك توافقاً في المصالح بين شركات الوساطة والجهات التي تصنع السوق، ولا يستبعد أن يكون لشركات الوساطة عمولة على الصفقات التي تعقد من خلالها، هذا إن لم تكن هي مشاركة في صناعة السوق.
5- أرباح تجارة الصرف بينها وبين العملاء؛ فحينما تذهب بدنانيرك إلى الشركة فسوف تصرفها لك: تحولها إلى دولارات وهي لا شك تكسب من تعاملها مع العملاء كما تفعل أي وكالة صرافة أخرى؛ فإذا عرفنا انك تقلب نقود المتاجرة باستمرار فهذا يعني مزيداً من المكاسب لشركة الوساطة لأنها لا تحتسب عمولة صرف الهامش المستخدم في صفقتك فقط، إنما تحتسب عمولة صرف المبلغ الكلي الذي يزيد عن هامشك مائة مرة أو يزيد.
التقدير:
مما تقدم يتضح أن الحديث في هذه التجارة ليس عن صرف وأحكام صرف كما يتوهم البعض، وليس عن تجارة عملات فحسب، إنما عن تجارة عملات بنظام مخصوص هو نظام الهامش. ويمكن أن نعّرف هذه التجارة بأنها: عمليات مصارفة تمول جزئياً بأموال المُتاجر: المُصارف (وأموال الذين أنابوه وأوكلوا إليه مهمة المتاجرة بأموالهم)، ويتمم تمويل هذه المصارفة بقرض مقدم حكماً من شركة الوساطة أو البنك، على أن يكون المبيع محل العقد (العملة الأجنبية التي اشتراها المتاجر) رهناً وضماناً لمبلغ القرض، وعلى أن تتم المتاجرة من خلال مرافق شركة الوساطة وبظل قوامتها، وكل هذا النشاط، نشاط مضاربي بعيد عن دواعي الصرف الاعتيادية.
ولتقييم هذه المتاجرة هناك مدخلان:
الأول: تفكيك المنظومة العقدية لتجارة الهامش وتقدير كل عقد فيها على انفراد.
الثاني: تقدير أداء المنظومة العقدية لهذه التجارة على نحو إجمالي.
أما المدخل الأول فيُظهر أن هذا النشاط تحكمه أشباه العقود التالية:
1- عقد مضاربة بين جمهور الممولين المسترسلين والمُتاجر: المُصارف، وبموجبه يكون هذا المتاجر مضارباً بالمعنى الفقهي، وعلى فرض صحة هذا التكييف وصحة عقد المضاربة هذا؛ فلا أعتقد أن ذلك يغني شيئاً إذا كان أصل النشاط (الاتجّار بالعملات) مقدوحاً في مشروعيته، وفرق كبير بين مشروعية عقد الصرف ومشروعية الاتجار بالعملات مطلقاً، وفرق كبير بين مشروعية عقد الصرف ومشروعية الاتجار بالعملات بنظام الهامش من باب أولى.
2- عقد قرض بين الممول والمتاجر؛ فالمبلغ الرئيس الذي يتاجر به المضارب يجهز حقيقة أو حكماً من قبل الممول؛ وهذا القرض ترد عليه الملاحظات التالية:
أ- أنه قرض ربوي إذْ لا يعقل أن شركة الوساطة أو المصرف التجاري يقدم تمويلاً بلا فائدة قطعاً، ولو ادعى البعض خلاف ذلك، إلا اللهم إذا كانت الشركات التي تدعيه شركات وهمية، أو كان القرض وهميا!!، فالربا مؤكد في هذا العقد للقرض الابتدائي أولاً، ونظير التبييت (إرجاء السداد ليلة تالية) ثانياً.
ب- أنه قرض وشرط؛ فالمتاجر لا يمّلك مبلغ القرض، ولا يتاح له التصرف به كما يريد، إنما يتاح له التصرف وفق نسق مخصوص لا يملك المقترض تعديل هذا النسق أو تغييره، ومثل هذا القرض غريب عن الفقه مثلما هو غريب عن القانون، وقد ورد النهي عن بيع وشرط ولو كان في مباح، فكيف بمن يقترض بالربا ليلعب الميسر تحديدا!!.
ج- أنه قرض جر نفعاً لأن المتاجر ملزم بالمتاجرة عبر مؤسسات شركة الوساطة ومرافقها، ويكون ذلك مقابل أجر أو عمولة، فهو إذاً قرض وإجارة، وقد نهى الشرع عن بيع وسلف لمظنة الربا، والإجارة والسلف ليست بمنأى عن ذلك.
3- عقد رهن مريب وغريب؛ فالمتاجر يرهن أولاً الهامش المتاح، ثم هو يرهن المبيع محل العقد، وشركة الوساطة تتصرف في المالين حال الخسارة، وليس في الاثنين مقومات الرهن الصحيح، فلا الهامش المتاح رهن صحيح ومكافئ للقرض المزعوم، ولا المبيع المشترى بالقرض رهن صحيح لان المتاجر لم يملك المبيع بل هو لم يملك القرض الذي كان ثمناً له أصلاً.
4- عقد إجارة بين المتاجر وشركة الوساطة بموجبه يمكن للمتاجر الاستفادة من مرافق الشركة وتسهيلاتها مقابل العمولات، ولو كانت هذه الخدمات في دائرة الإباحة باعثاً ومآلاً فلا غبار على هذه الإجارة لكن الأمر كما ترى ليس كذلك.
5- عقد صرف بين بائع العملة محل الاتجار والمتاجر الذي يشتريها أو العكس، وهو عقد لا يهدف إلى التقابض ولا يسعى إليه، إنما يسعى إلى تحصيل فروق الأسعار ليس إلا، فهو صرف لا يستهدف فيه القبض أصلاً، ولا يتحقق فيه القبض في الغالب سواء كان القبض حكمياً أم فعلياً. ودائماً تكون هناك فسحة من وقت تفصل بين عمليات المصارفة وتسوياتها. وفي المعاملة أيضاً عقد صرف آخر بين المتاجر الذي يقدم عملة محلية والشركة التي تقلب هذا النقد إلى نقد المتاجرة لتحدث تجانساً بين الهامش وبين التمويل وبالعكس.
وهكذا نرى أن من التكلف حمل مكونات المنظومة العقدية لهذه التجارة على محامل العقود الإسلامية لما تقدم من ملاحظات جدية خاصة وأن أرباب هذه التجارة لم يدّعوا لعقودها المضامين التي نتطوع بعرضها، إن الخطورة تكمن في النظر الفقهي المجزوء إلى هذه العقود، وفي السعي إلى تصحيحها كل على انفراد، ولو صحَّ هذا لصحَّ بيع العينة بعد تفكيكها، ولصحَّ بيع وسلف بعد تفكيكه!!.
أما المدخل الإجمالي في تقدير هذه التجارة فيكشف عن خطورة بالغة لآلياتها، ويرى أن الصحة المفترضة لآحاد العقود المكونة لها، أو دعوى إمكانية تصحيحها، لا تعني بالضرورة صحة المنظومة العقدية بإجمالها ولا سلامة أدائها، نظراً لآثارها الاقتصادية والاجتماعية المدمرة، ولعل من أبرزها:
1- التضخم الهائل الناجم عن توليد النقود؛ فـ (1: 100) أو (1: 400) يمثِّل مع انعدام فرص التسرب النقدي، أعلى مضاعف لتوليد النقود عرفه الاجتماع الإنساني، من قبل مؤسسات خاصة تفتئت على صلاحيات جهات الإصدار الرسمية، وهي بفعلها هذا تنطوي على ضرر محقق يحيق بكل الناس جراء ارتفاع الأسعار مقابل مكسب مظنون لثلة من المشاركين في هذا النشاط على فرض مشروعيته ومشروعية آلياته، فكيف إن كان النشاط غير معتبر أصلاً لا في النظر الشرعي ولا في النظر الاقتصادي.
2- تعبئة الأموال وترحيلها إلى السوق الدولية في وقت تمسُّ الحاجة إليها في الداخل؛ فالحكومات في البلدان النامية فعلت ما يجوز وما لا يجوز لاستقدام الاستثمار الأجنبي واستقطابه بدعوى ردم فجوة رأس المال، في حين تعمل هذه الشركات على تعبئة كل الموارد وترحيلها إلى السوق الدولية وبكفاءة فاقت كفاءة البنوك التقليدية والإسلامية!!.
3- إعادة تخصيص الموارد (المالية والبشرية) لصالح المضاربات المالية على حساب القطاعات الحقيقية؛ فقد أجهز منطق الاستثمار عبر شاشات الشبكة العنكبوتية على أي فرصة للاستثمار الحقيقي، فماذا بقي من موارد توجه للاستثمار في الصناعة؟! وماذا بقي من موارد توجه للزراعة؟! وماذا بقي لقطاع الإسكان؟! وماذا بقي لإحياء الأرض الموات؟!.
4- تعميم ظاهرة الدولرة وتعميقها في بلدان العالم، في عملية إزاحة واضحة للعملات الوطنية لصالح الدولار حتى ضمن محيط الاقتصادات الوطنية، بما يرحِّل كل أعباء الدولار ومشكلاته إلى الاقتصادات المحلية، وبما يسهم في تجذير التشوه القائم في نظام النقد العالمي.
5- تتسبب هذه التجارة في اختلاجات وتشنجات حادة في الأسواق المالية تترك آثاراً مدمرة على القطاع الحقيقي في عموم الاقتصاد العالمي.
6- تسهم هذه التجارة في تنمية العقلية الطفيلية وترويج ثقافة الكسل، كما تسهم في تركز الثروة وإعادة توزيعها على أسس غير معتبرة شرعاً وعرفاً وقانوناً.
7- التدليس والاحتيال المحتمل على قاعدة الممولين الأغرار في ظل غياب الأطر القانونية الواضحة؛ إذ يتذرع هؤلاء لهذه التجارة بحواريي الأسواق المالية، أعني ثلة "المضاربين" حسب التوصيف الدارج، وهؤلاء بدورهم ليسوا بمنأى من أفاعيل الكبار ومن يتعاملون معهم.
والخلاصة إن مثل هذا التنيِّن، ولو اجتهد البعض في تصحيح عقوده سيظل في أدائه الإجمالي وفي تكوينه الكلي مسخاً عصياً لا تؤتمن بوائقه. إن منظومة عقدية ومؤسسية تثمر هذه النتائج ينبغي أن تحجز عن الحياة الاقتصادية بلا أدنى تردد؛ فأنشطة هذه التجارة لا تعدو أن تكون في حقيقتها عمليات مقامرة منظمة شعبية يشارك بها مضاربون ويشارك فيها أغرار مسترسلون، ولا ينبغي لأولياء الأمور أن يترددوا في الحجر عليهم بما لهم من ولاية شرعية تحقيقاً لقوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما".
إن أحكام المعاملات إجمالاً معلولة بالمصالح؛ فإذا كانت هذه التجارة لا تحقق المصالح المعتبرة في التجارة، بل ثبت أنها تحقق المفاسد والشرور المنوه بها آنفاً فكيف نشرع بعملية تأهيل فوقية لأنشطتها من خلال ما يعرف بالتكييف الفقهي: "ليكن هذا صرفاً...، ليكن هذا رهناً...، لتكن هذه وكالة..."، لنخلص بعد ذلك إلى أن هذه التجارة: الفاسدة في مبانيها المفسدة في مآلاتها، أصبحت تجارة صحيحة طيبة الكسب بمجرد إعادة توصيف ذاتية في ذهن باحث أو فقيه؟!.
إن هذه التجارة شأنها شأن الكثير من الأدوات المالية الأخرى التي أتحفتنا بها الهندسة المالية المعاصرة، هي من تشقيقات ميسر الجاهلية ومشتقات رباها؛ إنها منظومة عقدية إذعانية مبرمجة وظيفياً ترحِّل مخاطرة المقامرة إلى قاعدة الممولين والمتاجرين وتخص شركات الوساطة وصانعي السوق بوافر مكاسبها.
صانعو السوق:
إليك هذه الطرفة التي حدَّثنيها الزميل الدكتور محمد بني عيسى، وأنا أنقلها لك بتصرف وظيفي غير مخِّل:
إن محتالاً أراد أن يسطو على مدّخرات القرية التي يعيش فيها، لكنه أدرك أن ليلة واحدة لا تكفي للسطو على بيوت القرية، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر افتضاح أمره؛ فعمد إلى مغلفات صغيرة وشفافة ملأها تراباً وكتب عليها بخط أنيق: (تراب خالص: السعر دينار واحد!!) وعرضها للبيع في حانوته. إن أحداً لا غرض له بهذا التراب والمتصور أن لا أحد يأخذه مجاناً فضلاً عن أن يشتريه بدينار.
لكن المحتال استطاع أن يقنع أحد المسترسلين بأن يشتري واحداً منها، وأكّد له أنه لن يخسر بصفقته هذه، فحصل اللامعقول واشترى المسترسل كيس التراب.
وفي الليل أرسل المحتال إلى ذاك المسترسل من يشتري منه كيس التراب بدينارين دفعهما له بلا تردد وأخذ الكيس ومضى. وفي الصباح عاد الرجل المسترسل وبيده ديناران واشترى من البائع المحتال كيسين بلا تردد، وجاءه زائر الليل واشتراهما منه بضعف السعر!!.
ثم لم يلبث الخبر أن انتشر وتسامع الناس عن أرباح المتاجرة بأكياس التراب، وسريعاً اتسع سوقها وكثر رواد المتجر الذي يجهزها، بل وكثر وكلاؤه: إن أكياسه التي يشترونها منه في النهار بدينار يبيعونها إلى مجهول في الليل بدينارين!!.
واستمرت سوق التراب بالاتساع وزادت حجوم معاملاتها حتى استوعبت مدّخرات القرية ... عندها وبعد أن باع المحتال في النهار أكبر قدر من التراب، قرر الهروب من القرية بما استطاع جمعه من نقود أبنائها،... وفي الليل ظل هؤلاء المتاجرون الفطنون في انتظار العملاء المجهولين الذين سيقدمون ويطلبون أكياس التراب بضعف السعر، لكن أحداً لم يأت...!!.
وهكذا استطاع محتال القرية أن يصنع بذكائه سوقاً للتراب، لا للدولار ولا لليورو ولا لبراميل البترول ولا لبواشل الزيت ولا لمؤشرات الأسواق؛ فهل يعجز محتالو البورصة عن مجاراته؟!.
ولعلك أدركت عزيزي القارئ كيف تُصنَّع الأسواق، والسؤال ليس عن آلية صناعتها ولا عن حجوم معاملاتها، إنما عن مغزى تلك الأسواق وفائدتها للاجتماع الإنساني. إن أنصار سوق العملات يريدون أن يقنعونا أن سوق التراب التي صنعها المحتال لها من الأهمية ما لسوق القمح والزيت، إنهم يريدون أن يقنعونا أن الحراثة في البحر معقولة ومنطقية مثل حراثة حقول القمح طالما كانت تعطي لمتعاطيها بعض المكاسب، ونحن لا نجحد هذه المكاسب لكننا نجحد أي بعد عقلاني لهذه التجارة ونؤكد عبثيتها ومخالفتها لمصالح الشعوب، ونقول فيها ما قال ربنا تعالى في الخمر والميسر تقريراً: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما..." (البقرة: 219)، ونقول فيها ما قال ربنا تعالى خطاباً تكليفياً: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه..." (المائدة: 90). إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com