بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: ففي سياق تحليله للنشاط الاقتصادي والعوامل المؤثرة فيه يرى ابن خلدون أنَّ الطلب هو الذي يستحث العرض وأن الحاجات الإنسانية هي التي تُحرِك النشاط الاقتصادي، ويبين أثر ما نسميه اليوم سعة السوق على الصناعة: "... الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها" (المقدمة: 403)، وهو يؤكد "أنَّ الدولة والسلطان هي السوق الأعظم" (المقدمة: 286) بما تنفقه الحكومة لتجهيز الجيش و لوازم الإدارة العامة، لذلك تزدهر الصنائع التي تطلب منتجاتها الحكومة. ويبرز ابن خلدون دور الإنفاق الحكومي على مستوى النشاط الاقتصادي؛ فالدولة حين تمسك عن الإنفاق وبلفظه حين "يحتَجن المال"؛ يقل طلب الجند والموظفين؛ إذ المال متردد بين السلطان والرعية فإذا حبسه السلطان أو احتجنه فقدته الرعية؛ فيتدنى بذلك مستوى النشاط الاقتصادي وتظهر فيه الآثار الانكماشية ومنها نقص الجباية، وعلى العكس حين يتوسع السلطان في الإنفاق تزداد الرعية في طلبها فتنشط الصناعات.
الضرائب في نظر ابن خلدون
وفيما يتعلق بالضرائب يقيم ابن خلدون (المقدمة: 279) مقابلة بين الدولة الملتزمة بالشرع التي تكتفي بالمغارم المكتوبة فهي دولة (قليلة الوزائع أي قليلة الضرائب)، والدولة التي لا تلتزم بذلك وبالتالي تفرط في فرض الضرائب على رعاياها سواء من حيث أنواع هذه الضرائب أم من حيث مقاديرها. كما يلاحظ أنَّ الضرائب ترتبط بمستوى التطور؛ فحين تكون الدولة حديثة عهد بالبداوة يكون إنفاقها أقل ويكون خلقها مع الرعية "المسامحة والتجافي عن أموالهم" لكن الأمر يختلف مع ضلوعها في التمدن والترف وعوائده فيزداد إنفاقها وتزداد حاجتها إلى المال فتلجأ إلى زيادة أسعار الضرائب القائمة ثم تبتدع ضرائب جديدة.
ويلاحظ ابن خلدون بحق أنَّ الدولة في مراحل ضعفها (عدم كفاءة أجهزتها الضريبية) تتحول عن الضرائب المباشرة إلى الضرائب غير المباشرة: الضرائب على البياعات والمكوس، ونتيجة كل ذلك إحباط النشاط الفردي: فتذهب الغبطة في المنشط في قلوب الأَكَرَة والفلاحين؛ إذ العدوان على الرعية في أموالها يذهب بآمالهم في تحصيلها!!.
وعلى قدر العدوان يكون انقباض الناس عن الكسب فتكسد أسواق العمران وينذعر الناس!!.
ويقيم ابن خلدون علاقة عكسية بين سعر الضريبة وحصيلتها؛ فيلاحظ أنَّ الضريبة المرتفعة تتسبب في ذهاب غبطة الناس بالنشاط الاقتصادي لذهاب ثماره مما يقلل الاعتمار (الاستثمار)، وعندئذ يضيق وعاء الضريبة فتقل حصيلتها ولو كان سعرها مرتفعاً، وفي الشكل البياني الذي اشتهرت تسميته بـ(منحني لافر) نلاحظ أن منحني الحصيلة أظهر في جزئه الأول موجب الميل علاقة طردية (متزايدة) بين سعر الضريبة وحصيلتها لغاية السعر الأنسب للغرض المالي (TE) الظاهر على المحور الأفقي وعنده كانت الحصيلة في أقصاها، ولكن التمادي في رفع سعر الضريبة بعد هذا الحد ينتج عنه انخفاض في حصيلتها كما هو ظاهر في المقطع الثاني (سالب الميل) من المنحني حيث تعود الحصيلة إلى الصفر وهو ما يعبر عنه بالقول إن الضريبة تقتل نفسها.
وبالمقابل يلاحظ ابن خلدون أن تخفيض سعر الضريبة سياسة تطلب للغرض الاقتصادي وللغرض المالي أيضاً؛ فبخفض الضريبة ينشط الناس ويزداد الاعتمار؛ فيتسع الوعاء وتزداد حصيلتها، وبألفاظه فإن: "قليل الكثير (سعر الضريبة الواطئ على الوعاء الواسع) كثير (كبير الحصيلة)"، وهنا نلمس وبكل تجرد أصول التحليل الديناميكي عند ابن خلدون بأجلى صوره إذْ يأخذ الأثر المتبادل للمتغيرات وتوقيتها ومسارها بنظر الاعتبار، كما نلمس سبق ابن خلدون في تشخيص مضمون علاقة لافر بين عبء الضريبة وحصيلتها الذي عبر عنه بمنحني لافر، واعتقد أن من الإنصاف أن نعيد تسمية المنحني بما يكشف عن هذه الحقيقة ليكون منحني (ابن خلدون ــــ لافر) كما هو ظاهر في أعلاه.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com