بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: فمن استقراء واقع المصارف الإسلامية المعاصرة يتضح أنَّها قد اعتمدت بالمجمل نظاماً موحداً لمحاسبة تمويلاتها في البيوع والإجارات. يتمثل هذا النظام بتحديد مبلغ التمويل الصافي بعد حسم الدفعة الأولى (ل) وضربه بما تسميه نسبة الربح (ح) وعدد السنوات (ت) التي يسترد بها أصل التمويل وعائده (ل × ح × ت) وإثبات ذلك ديناً في ذمة المتمول. ووجه اختلاف هذا النظام عملياً عن النظام التمويلي الربوي في المصارف التقليدية يتلخص في أمرين: الأول أن سبب ثبوت مديونية المتمول هنا هو البيوع لا القروض. والثاني توكيده عدم جواز جدولة ديون البيوع تلك بعد ثبوتها في الذمة.
وواضح أنَّ هذا النظام يكفل للمصارف الإسلامية أرضية ربح معطاة (Given Profit Floor)، وواضح أيضاً أنَّ المصارف الإسلامية المعاصرة بوجه عام اجتهدت في تصفير المخاطرة لأرضية الربح المعطاة تلك (Zero Risk Policy) عبر التحول عن الاستثمار الحقيقي ومخاطر المضاربين المهنية والأخلاقية إلى التجارة، ثم اجتهدت تالياً في تصفير مخاطر التجارة ومخاطر ديونها عبر الآتي (كُلِّه أو جُلِّه):
- اعتماد بيع المواصفة (المرابحة) لتنفيذ جُلِّ تمويلاتها.
- إقران هذا البيع بالوعد الملزم تحرزاً من مخاطر الأسواق.
- اشتراط البراءة من العيب الذي قد يظهر في مبيع المرابحة.
- اشتراط التأمين على مبيع المرابحة.
- اشتراط حلول جميع الأقساط إذا تخلف المتمول عن سداد أحدها.
- اشتراط دخول المتمول في نظام التأمين التكافلي على ديون المرابحة.
- استحداث صندوق مخاطر الاستثمار وتمويله بنسبة من أرباح وعاء المضاربة.
- اعتماد الإجارة المنتهية بالتمليك حيطة من مخاطر التضخم (تغير قيمة النقود).
وكانت نتائج جهود الهندسة المالية المصرفية فائقة مهنياً إذ أسفرت عن عمل مصرفي بلا مخاطر: ليس فيه مخاطر استثمار حقيقي وليس فيه مخاطر تجارة، وليس فيه مخاطر مداينة (مخاطر ائتمانية). وبجهود الهندسة المالية المبهرة تلك تخفف العمل المصرفي من الكفالات العينية والشخصية وما تتسبب فيه من أعباء إدارية وما قد تجر إليه من حضور للقضاء ولظله الثقيل على العمل المصرفي.
لقد استطاعت الهندسة المالية أن تنسج للمصارف الإسلامية مظلة سابغة تغطي الممارسة المصرفية عبر اجتهاد فقهي وظيفي على أعلى الصعد تمثلت مخرجاته بقرارات مجمعية وترسمت تالياً - مع زيادات وظيفية أخرى - بمعايير الأيوفي. ومع النزوع المهني العملياتي إلى الاسترباح الآمن تماماً، والمغطى بالقرارات المجمعية والمعايير الشرعية جنحت المصارف الإسلامية بعيداً عن الاستثمار الحقيقي وما يلزمه من رأس مال مخاطر Venture capital، وبدا وكأن آمال طلاب الرواد الأوائل في مشروع التنمية والعمارة العادلة قد تبخرت. لقد كان تحليل هذه التوجهات وتقديرها هو موضوع فصول كتاب: (الوجيز في المصارف الإسلامية).
هذا، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com