بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، وبعد: فإن تكن النفعية الوضعية قد جعلت الإنسان حاسوباً متقناً لمنافعه (وأرباحه وتكاليفه) الدنيوية العاجلة فإنَّ النفعية الإيمانية تقتضي من الإنسان أن يكون حاسوباً متقناً للمنافع الدنيوية والأخروية معاً؛ فالكشف ذو القيد المزدوج (والإضافات الحدية في جانبيه) ينبغي أن يكون حاضراً في ذهن المسلم: "فمَن يعملْ مثقال ذرَّةٍ خيرًا يرَهُ. ومَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ شرًّا يرَهُ" (الزلزلة: 7، 8)، ومن هنا جاء التركيز على تفعيل المنطق الحدي في حوكمة السلوك الفردي وعلى استدامة السعي إلى التعظيم وإليك بسط ذلك.
(1)
المنطق الحدي Marginal Logic approach
إنَّ شق تمرة يمكن أن يغير بإضافته الحدية إلى رصيد الحسنات مصير الإنسان من النار إلى الجنة: "... فَاتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرَةٍ" (صحيح مسلم، 2: 703)، وشبر مسافة غيَّر مصير القاتل التائب الذي اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب (مسلم، 4: 211)، واللحظات الحدية من طرفي يوم الصائم تحدد صحة صومه، والدرهم الأخير هو الذي يلحظ في كمال النصاب ووجوب زكاة المال، واللحظات الأخيرة من نهار يوم عرفة هي التي تؤشِّر للحجيج نفرتهم؛ والصلاة المكتوبة لا تصح إلا ببلوغ اللحظة الحدية من وقتها، فالمنطق الحدي (ترتيب الاستجابة على التغير الحدي) كان حاضراً في كل ما تقدم ونظائره كثير.
ولعل في حديث الدرهم الذي سبق الدراهم الكثيرة وفي تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له ما يلقي أنواراً كاشفة أخرى على الفكرة الحدية؛ فعن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ قال: "سبق درهمٌ مائةَ ألفِ درهم. قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجُلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحَدهِما، وانطلق رجلٌ إلى عُرْضِ مالهِ فأخذ منه مائة ألفِ درهم فتصدَّقَ بها" (النسائي، 5: 59).
وواضح من السياق أنَّ سبق المثوبة مبني على عِظَم التضحية: فنسبة ما تصدق به الأول هو نصف ماله، وما تصدق به الثاني لا يرتقي إلى هذه النسبة وإن تجاوزها ككم مطلق لأن صغر رصيد الأول جعل منفعة درهمه كبيرة وتضحيته بها كبيرة كذلك، وكبر رصيد الثاني جعل منفعة الدرهم من رصيده بالنسبة له واطئة والتضحية بها واطئة كذلك!!، وكل هذا بافتراض تساوي الأشياء الأخرى فالحديث لم يشر إلى أي اختلاف آخر بين الرجلين، وفي تأكيد هذا المعنى يقول العز بن عبدالسلام: "... فقد يرى الفقير المدقع الدينار عظيماً بالنسبة إليه، والغني المُكثِر قد لا يرى المائتين (المئين) عظيمة بالنسبة إلى غناه" (القواعد، 2: 223)؛ فهل يمكن للحديث المتقدم أن يعتمد في تحليل عبء الضريبة وتسويغ التصاعدية فيها؟!.
(2)
السعي إلى التعظيم Maximization
احتلت فرضية السعي إلى التعظيم مكانة مركزية في التحليل الاقتصادي؛ فقد بنت النظرية الاقتصادية الجزئية على أساسها تفسير سلوك المستهلك وسعيه المفترض لتعظيم المنفعة أو استقصاء الإشباع، وتفسير سلوك المنتج وسعيه المفترض لتعظيم الربح، وتفسير سلوك ملَّاك عوامل الإنتاج وسعيهم المفترض لتعظيم عوائدهم. ومع أنَّ الفكرة هذه ليست بعيدة عن المنطق الإيماني أبداَ إلا أنها نالت حظها من التشكيك والنقد من قبل بعض الباحثين الطارئين على الاقتصاد الإسلامي شأنها شأن فكرة الندرة النسبية والنفعية؛ ولا أرى ذلك يسلم أبداً؛ فالمسلمون محفوزون شرعاً لأن يجاروا ما يقتضيه منهم أفعل التفضيل؛ فأكرمهم عند الله أتقاهم، وقرآنُهم يهدي للتي هي أقوم، وهم مطالبون بأن يقولوا التي هي أحسن، وأن لا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ويعلمهم نبيهم عليه أنمى الصلاة وأزكى السلام أن يؤمهم في الصلاة أقرؤهم، وأن يستعمل عليهم أصلحهم وأن يسألوا الله من جنانه أعلاها.
وفي مجال المعاوضات نص الفقهاء على وجوب السعي للعوض الأحظ (الأعلى) خاصة حينما يكون التصرف في حق غيري كنظارة على وقف أو ولاية على مال يتيم ولا يقبل ما دون ذلك. والمنطق ذاته تمثله سيدنا عثمان رضي الله عنه: التاجر الذي فقه منطق النفعية على حقيقته فعدل عن الربح الذي عرضه عليه تجار المدينة لأنه أعطي أكثر منه قال: "قد زادوني" إيماناً منه بموعود الله في الأضعاف المضاعفة. قالوا: "يا أبا عمرو ما بقي في المدينة تجار غيرنا فمن ذا الذي زادك؟!. قال: زادني الله عز وجل بكل درهم عشراً. أعندكم زيادة؟!، قالوا اللهم لا. قال: فإني أُشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين" (المصباح المضيء، 1: 61)!!.
وعندما تتزاحم على المسلمين مصالحهم يُستجلَب منها الأصلح فالأصلح، وليس من منطق الإيمان أن نعدل عن الأقوم والأحسن والأمثل والأقرأ والأصلح والأحظ إذا كان في الوسع إدراكها، قال (ابن كثير، 8: 47): "... لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح".
وإذاً فلابد من استمرار السعي إلى الارتقاء والتعظيم؛ هذا هو منطق المجتمع المسلم أو ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه؛ فمن تساوى يوماه فهو مغبون!!... وهذه هي الحكمة ومن يعرض عنها فقد فاته الخير الكثير.
هذا؛ وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com