بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: لم يتضح أي التزام للدول الغربية تجاه رعاياها فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي إلا في ثمانينات القرن التاسع عشر مع (بسمارك) فيما عرف بمولد دولة الرفاهية، حيث صدرت تشريعات التامين الإلزامي ضد الحوادث والمرض والشيخوخة والإعاقة وتالياً ضد البطالة، لكن هذا الالتزام سرى سريعاً إلى التشريعات الغربية في النصف الأول من القرن العشرين؛ ولعل أهم الدوافع التي كانت وراء ذلك:
- السعي إلى أنسنة النظام الرأسمالي إزاء البؤس العمالي الذي أثار مزيداً من القلق عم آل إليه حال المعدمين، وتكفيراً عن خطيئة الإيمان بـ "مزية الفقر"، التي كانت الأساس لسياسات مزرية قدحت بإنسانية الإنسان طيلة العهد الميركانتيلي والمراحل التي تلته من تطور النظام الرأسمالي، وهو ما لم يعد الظرف التاريخي يحتمله.
- احتواء الطبقة العاملة وتحصين ولائها في مواجهة المد الاشتراكي الناهض آنذاك والذي اتسعت دائرته في عموم القارة الأوربية وصار يهدد النظام الرأسمالي في عقر داره.
- الاستجابة لضغوط النقابات العمالية في سياق السعي لاحتواء الصراع الطبقي الذي صار يهدد كيان النظام الرأسمالي، وقد أكد (جالبريث) أن الوظيفة الرئيسة للدولة أصبحت تحقيق التوازن بين أرباب العمل والنقابات العمالية فيما عرف بتوازن القوى المتقابلة.
- الالتزام الأخلاقي للدولة تجاه رعاياها سيّما المحاربين منهم، وقد تجلى ذلك بوضوح في التراث الألماني؛ فقد أرست المدرسة التاريخية الألمانية هذا الالتزام باعتباره واحداً من ابرز خصوصياته، ثم ما لبث هذا الالتزام أن أصبح محّكاً لدرجة تمدن الدول، ووافق قبولاً أيديولوجياً تشبثت به المنظمات الدولية الفاعلة آنذاك.
وعالمياً تأكد الالتزام بقضية الأمان والضمان الاجتماعي بدخوله في دستور منظمة العمل الدولية ومبادئ حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية، ومن ذلك:
(أ) اتفاقيات وتوصيات منظمة العمل الدولية بدءاً من 1919م.
وما أكدته هذه الاتفاقات والتوصيات من حماية اجتماعية للعمال، تتعلق بالبطالة والتعويض عنها، وبتحديد ساعات العمل والحد الأدنى لسن العمل، وبعمل المرأة وحماية الأمومة وبالتعويض عن حوادث العمل وإصاباته، وبالتامين الصحي والتامين ضد الشيخوخة وبإعانات العجز والشيخوخة وحقوق الورثة، وبالإجازات مدفوعة الأجر وبخدمات الصحة والسلامة المهنية، وغير ذلك مما يمس أمن العامل وكفايته هو وأسرته.
(ب) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م، ومما جاء فيه:
(المادة 22) وفيها: "لكل شخص، بوصفه عضواً في المجتمع، حق الضمان الاجتماعي، ومن حقه أن توفر له،...، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها".
(المادة 25) وفيها: "لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحق في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه".
(ج) العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966م، وفيه:
(المادة 9) وفيها: "تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية".
(المادة 7) وفيها: "تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بما لكل شخص من حق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل كحد أدنى: أجراً منصفاً، ...، عيشاً كريماً لهم ولأسرهم،... ظروف عمل تكفل السلامة والصحة،... الاستراحة وأوقات الفراغ، والتحديد المعقول لساعات العمل، والأجازات الدورية المدفوعة الأجر، وكذلك المكافأة عن أيام العطل الرسمية".
(المادة 14) وفيها: "تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد،... بوضع واعتماد خطة عمل مفصلة للتنفيذ الفعلي والتدريجي لمبدأ إلزامية التعليم ومجانيته للجميع...".
التحولات الاقتصادية الجديدة والانقلاب المر!!
بعد كل ما تقدم من مواثيق وعهود حدث اللامعقول وتبخرت الكثير من الالتزامات وتبدلت الكثير من المواقف في ردة كان حصادها شديد المرارة على الشعوب في كل الأرض؛ فقد أدت التحولات الواسعة التي واكبت أفول النظام الاشتراكي، وعولمة فلسفة المشروع الخاص، إلى تراجع خطير في الالتزام بقضية الضمان الاجتماعي؛ إذ أقالت الفلسفة الاقتصادية الليبرالية الجديدة دولة الرفاهية، فيما أعتبره الباحثون الغربيون، انقلاباً على دولة التكافل وهجوماً على الديمقراطية والرفاهية، فلم تعد هذه الفلسفة تعترف للدولة بأي وظيفة أصيلة اقتصادية كانت أم اجتماعية، وكان منطقياً والحال كذلك أن يُتودع من الرفاهية حتى في البلدان المتقدمة وتختفي فيها ظلال السياسات الاجتماعية الهادفة إلى الارتقاء بحال الأمان الاجتماعي.
أما في البلدان النامية فقد اخذ الالتزام بالضمان الاجتماعي على تواضعه، يتبخر وبسرعة عجيبة؛ فقد أملت المنظمات الدولية: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية على حكومات هذه البلدان التخلي عن جلّ التزاماتها الاقتصادية والاجتماعية تجاه مواطنيها، وكان من نتيجة ذلك:
أولاً: انكشاف الضمان الاجتماعي مذهبياً بتسفيه دور الدولة: بمزيد من النعوت الدونية والكيدية مثل البيروقراطية والدكتاتورية والشمولية، وكأن التراث الكلاسيكي الذي كان ينعت الدولة بـ "المستهلك اللارشيد" لم يعد كافياً لتبرير الحجر عليها، وكان لابد من تعزيز هذا التراث وتجديده من خلال جهد إعلامي مكثف، وقد بالغت المنظمات الدولية في هذا التوجه إلى حد بعيد حتى ساد الاعتقاد في كثير من الأوساط الواعية في هذه البلدان أن القطاع العام يتعرض لمؤامرة، هدفها تيئيس الناس وإيصالهم إلى قناعة تقضي بوجوب تصفية هذا القطاع لاستحالة إصلاحه!!.
ثانياً: انكشاف الضمان الاجتماعي مالياً بتجريد الدولة من مواردها العامة في ظل موجات الخصخصة المتوالية التي ضربت شواطئ البلدان النامية تباعاً، وتلخصت وظيفة الدولة في هذه البلدان كما تقضي الفلسفة الليبرالية الجديدة، بمكافحة منغصات الاستثمار الأجنبي وترويض الشعوب لإرادة المنظمات الدولية!!.
وكان منطقياً والحال كذلك، أن تنحسر مظلة الضمان الاجتماعي أفقياً من حيث عدد المستفيدين، ورأسياً من حيث الخدمات العامة والمزايا التأمينية التي كانت الدولة تكفلها للمواطنين، وكان للتوجهات الجديدة تلك آثار بالغة الخطورة لم تزل تقارير التنمية البشرية والنشرات الاقتصادية تطالعنا بها على مدار الساعة، ومن أبرزها:
- ارتفاع معدلات التضخم على نحو غير مسبوق.
- تركز الأسواق وسيادة الاحتكارات الكبرى.
- ارتفاع معدلات البطالة وتراجع المكاسب العمالية.
- زيادة تركز الثروة وتعاظم التمايز الاجتماعي.
- التهميش المتعاظم للأغلبية وتعاظم الشعور بالاغتراب.
- خصخصة التعليم والصحة وكثير من السلع العامة.
- إلغاء دعم السلع الأساسية و"تحرير" الأسواق.
- تساقط متتابع لشرائح الطبقة الوسطى دون خط الفقر.
لقد كرست السياسات الاقتصادية الجديدة في ظل مناخات التحرير الاقتصادي التكامل السلبي لاقتصادات هذه البلدان مع الاقتصادات المصّنعة ومأسست له على نحو لم يسبق له مثيل حتى في ظل العهد الاستعماري وصارت أبسط فرص التوظيف تصّدر إلى البلدان الصناعية من خلال استيراد منتجاتها بدءاً من وجبات الغذاء السريعة وحتى آخر سلعة في لائحة المستوردات المصّنعة، وكان الاستهلاك هو المساهمة الوحيدة المسموح بها للبلدان النامية في ظل النظام الاقتصادي العولمي الجديد!!.
أما الأمن الغذائي في البلدان النامية؛ فقد أصبح في أسوأ حالاته، إذ قوضت المنافسة اللامتكافئة وارتفاع تكاليف الإنتاج المحلية أي جهد وطني للاستكفاء الغذائي، يجئ كل ذلك في وقت يتزايد فيه الطلب على الغذاء للاستخدامات التقليدية ولإنتاج الطاقة البديلة.
وفي ظل الواقع العولمي الجديد تبخرت السياسة الاجتماعية الحقيقية وتبخرت أهدافها السامية؛ فرفع مستوى نوعية الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واعتماد المعايير النموذجية في التعليم والصحة والثقافة والعمل والإسكان أصبحت أبعد ما تكون عن الواقع!!.
وهكذا أصبحت غيلان العولمة تتبارى في الانقضاض على الاقتصادات النامية ونهش مجتمعاتها؛ فالبطالة والتضخم والمديونية والجوع والأوبئة، شرور تعصف في أقدار الشعوب دون استعداد يرتفع إلى مستوى هذه التحديات الجدية التي تهدد الكيانات الاجتماعية والسياسية في العالم النامي، وما ذاك إلا لأن الفلسفة الاقتصادية الليبرالية الجديدة قد غلّت يد الدولة بأوضاع مؤسسية بالغة التعقيد والخطورة ومنعتها من دعم أي سياسة اجتماعية جدية.
إن الاتجاهات العامة تلك والتي نعتتها الدراسات الأممية "بمصاحبات العولمة" لا يمكن تسويغها، ولا حتى توصيفها باعتبارها نواتج عرضية ولزومية لتطور تكنولوجي أو معلوماتي أو لظروف تتعلق بالموارد كما توحي السياقات الاعتذارية للدراسات الأممية.
إن الأمر يعود حقيقةً إلى التوجهات الجديدة في الفلسفة الاقتصادية وطغيان رأس المال الخاص وما يعنيه ذلك من إهدار للمقاصد الاجتماعية، وهذا ما جاهرت به دراسات الأسكوا وبكل صراحة ووضوح بقولها: "... فالنظام السياسي دائماً ما يميل لاختيار وتفضيل عناصر ومحتوى السياسة الاجتماعية الأكثر انسجاماً واتساقاً معه ايدولوجياً وسياسياً واقتصادياً وبشكل يعزز سلطة القوى المهيمنة في المجتمع"، وقديماً كتب أفلاطون: "إن الشرائع مرآة من يسُنّها"، هذه هي الحقيقة، حقيقة أنانية النظام الرأسمالي واستخفافه بمقدرات الشعوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com