بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين وبعد: تشترط الحكومات والشركات على من يتعهد لها بتنفيذ مقاولة ما، تقديم خطاب ضمان بموجبه يضُّم مُصدِر الخطاب وهو مصرف له ملاءته المالية ومكانته الاعتبارية؛ يضُّم ذمته إلى ذمة المقاول تأكيداً لجديته واستيثاقاً من قدرته على الوفاء بالتزامه وفق الشروط والمواصفات والجداول الزمنية المحددة، وإلا استحق المضمون له التعويض المنصوص عليه في عقد المقاولة من المصرف الضامن.
وخطاب الضمان Letter of Guarantee إذاً هو تعهد خطي يصدر من المصرف (الضامن) بناءً على طلب العميل (المضمون) يتعهد بموجبه المصرف تعهداً قطعياً مقيداً بزمن محدد (قابل للتمديد) بدفع مبلغ نقدي معين القدر (مبلغ الضمان) لأمر المستفيد (المضمون له) كشرط لدخول عميله في مناقصة، أو إذا تأخر في تنفيذ ما التزم به للمستفيد أو قصَّر به. والمصرف يرجع بعد ذلك على العميل بما دفعه عنه للمستفيد.
التكييف الفقهي لخطاب الضمان
عرضت في تكييف خطاب الضمان آراء مختلفة تلخص في الآتي:
- خطاب الضمان كفالة لأنه يشترك مع الكفالة في معناها الفقهي وهو التزام الشخص مالاً واجباً على غير نفسه لشخص ثالث، وذهب إلى ذلك كثيرون منهم الضرير وبكر أبو زيد ومحمد نور والمصري والموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية (انظر مثلاً: شبير، 300).
- خطاب الضمان وكالة يرجع فيها الكفيل بما يدفع من مال على مكفوله، ذهب إلى ذلك سامي حمود (تطوير الأعمال المصرفية: 300).
- خطاب الضمان وكالة إذا كان مغطى تغطية كاملة بحساب العميل، وكفالة إذا لم يكن مغطى، وأما إذا كانت تغطيته جزئية فإنه وكالة في الجزء المغطى وكفالة في غير المغطى وممن ذهب إلى ذلك السالوس (الكفالة: 134). وهذا ما أخذ به مجمع الفقه الإسلامي الدولي في قراره رقم 12 (2/ 12) وخلص إلى:
"أولاً: إنَّ خطاب الضمان إنْ كان غير مغطى بحساب العميل طالب الخطاب فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالاً أو مآلاً وهذه هي حقيقة الضمان أو الكفالة، وإن كان خطاب الضمان مغطى بحسابه فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان ومصدره هي الوكالة، وهي تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد المكفول له.
ثانياً: إنَّ الكفالة هي عقد تبرع للإرفاق، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة لأنَّ أداء الكفيل مبلغ الضمان مشروطاً بعوض يدفعه المضمون يشبه القرض الذي جر نفعاً على المقرض وذلك ممنوع شرعاً"، ولذلك قرر المجمع أنه لا يجوز أخذ الأجر الذي يراعى فيه مبلغ الضمان ومدته على خطاب الضمان. أما العوض على المصاريف الإدارية الفعلية اللازمة لإصدار خطاب الضمان فجائز شرعاً مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل.
إنَّ قرار المجمع والذي أكد فيه أن الكفالة عقد إرفاق وأنه لا يجوز أخذ العوض عليها لم ينتج حلاً عملياً لمشكلة خطاب الضمان في المصرف الإسلامي بل انطوى على شي من الإبهام إذ ختم القرار بالقول: "وفي حالة تقديم (المصرف) غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء"!!.
- فما الذي تتطلبه "المهمة الفعلية" لأداء ذلك الغطاء؟!.
- وكيف اختزلت مكافأة المصرف بمصاريف إدارية؟!.
- وكيف تمايزت المصاريف الإدارية لخطاب مغطى من العميل وخطاب مغطى من المصرف؟!.
وحتى يكون الكلام محدداً، نستبعد خطاب الضمان المغطى من حساب العميل والذي يصدق تكييفه وكالةً ونقر للمجمع بعدم جواز أخذ الأجر المرتبط بمبلغ الضمان ومدته، وأن ما يجوز هو أجر مكافئ للمصاريف الإدارية فقط.
خطاب الضمان غير المغطى:
ويبقى معنا محل البحث: خطاب الضمان غير المغطى من حساب العميل أي الخطاب الذي يغطيه المصرف. وإنفاذ قول المجمع بعدم جواز أخذ العوض عليه (على كفالة المصرف لعميله) لأن الكفالة عند الفقهاء عقد تبرر وإرفاق؛ يعني عملياً أن المصرف الإسلامي لن يقدم مثل هذا الخطاب لأنه يشغل ذمته بما لا مصلحة له فيه. إن المصرف الإسلامي ليس مؤسسة خيرية هدفها التبرر والإرفاق إنما هو شركة هادفة إلى الربح ومحل نشاطها هو المعاوضات والمشاركات لا التبرعات والهبات.
إنَّ الإقرار بضرورة الكفالة والقول بصفرية عائدها قول متناقض لأنه يهدم قاعدة أصيلة في فقه المعاملات المالية ومخالف لحديث: "الخراج بالضمان" (أبو داود، 3: 284/ ابن ماجه، 2: 754)، ومؤدى ذلك القول أن يحل الإرفاق محل الخراج، وهو قول لا ينهض في عالم الأعمال أبداً. ومثل ذلك يقال عن إحلال التبرع محل الغنم في قاعدة (الغنم بالغرم)، وهو منطق لا يسوغ البتة.
لقد قبل فقه الصيرفة الإسلامية المعاصر كلام الحنفية بتضمين عامل المضاربة الأول الذي يفوض مال المضاربة إلى الغير والتعليل: حتى لا يكون ربحه بلا ضمان، ومنصوصهم في ذلك: "(المضارب الأول) لا يضمن بالدفع (بدفع مال المضاربة) ولا بتصرف المضارب الثاني حتى يربح (المضارب الثاني)؛ فإذا ربح (الثاني) ضمن الأول ..." (المرغيناني، 3: 206).
والذي أراه والله أعلم أن الضمان الذي أشار إليه النص ضمان متكلَف لا ضرورة له، وهو حيلة لتسويغ اشتراك عامل المضاربة الذي يفوضها بالربح. إن القول المتقدم يقلب قاعدة (الخراج بالضمان)؛ لتصبح (الضمان بالخراج) وقد ناقشت ذلك تفصيلاً عند الحديث عن تفويض المضاربة. أما ما نحن بصدده هنا فهو ضمان مُراد أصلاً، وهو ضمان تمس الحاجة إليه (ليس حاجة المقاول إنما حاجة المجتمع كذلك)، والقول بعدم جواز مكافأته مناقض لمنطق العدل تماماً إذ كيف يرضى المصرف أن تُشغَل ذمته بمال المقاولة حتى إذا خرج ربحها أستأثر به المقاول من دونه؟!، لقد أصاب الدكتور البعلي إذ رأى في حديث (الخراج بالضمان) متسعاً لجزاء عادل لمن يتحمل تبعة الضمان أي المصرف (أساسيات العمل المصرفي: 42).
إنَّ المصرف (عامل المضاربة المشترك) ليس في وارد الإرفاق!! ولو ترَفَقَ بطالب خطاب الضمان على حساب أرباب المال لكان خائناً لأمانته لأنه خاطر بأموالهم فيما لا نفع لهم فيه!!.
ولو طلب المصرف عوضاً مضموناً على الضمان لجرى عليه كلام المجمع حول الأجر المرتبط بمبلغ الضمان ومدته. فما الحل؟؟.
الحل والله أعلم:
والمخرج والله أعلم في المضاربة: أن يدخل المصرف مع المقاول طالب خطاب الضمان بمضاربة رأسمالها مبلغ الضمان على حصة شائعة من ربح المقاولة؛ فهذا هو الضمان الحقيقي، وهذا هو عائده العادل السائغ شرعاً: نسبة من الربح نظير مخاطرة جدية ضرورية اجتماعياً، ولا أقول بتمييز المجمع بين مصاريف إدارية لخطاب مغطى من العميل وآخر مغطى من المصرف. إن المصاريف الإدارية هي هي لا تتغير؛ إنَّ الذي يتغير حقيقة هو الضمان، وما يناظره لا يصح أن يكون تمييزاً في الأجر على المصاريف، إنما هو عائد ذو طبيعة مختلفة؛ إنه نسبة شائعة من ربح يتأهل له من يتحمل المخاطرة (الضمان). والله أعلى وأعلم.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبدالجبار السبهاني
للترجمة أو إعادة النشر
تلزم الإشارة إلى المصدر
al-sabhany.com